بلدي نيوز - (فراس عزالدين)
تسير التحركات الروسية اﻷخيرة، والتي تجلت برفع وتيرة التصعيد العسكري على ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي وفق المسار الطبيعي المرسوم في ما يعرف باتفاق "المنطقة منزوعة السلاح"، في منتجع سوتشي الساحلي منتصف أيلول/سبتمبر الفائت، الذي وقع برعاية من الرئيسين، التركي رجب طيب أردوغان، والروسي فلاديمير بوتين.
وقضى الاتفاق بإنشاء منطقة منزوعة من الأسلحة الثقيلة بعرض 15 كيلومتراً على امتداد نقاط المراقبة الروسية والتركية بين مناطق النظام والمعارضة، بهدف تجنيب هذه المنطقة القصف.
ويدحض إمكانية عمل عسكري واسع على إدلب معطيات ميدانية وسياسية، يمكن تلخيصها بفكرة تطبيق مسار "الخطوة خطوة" الذي طرح في وقتٍ سابق.
سياسة القضم
التكتيك العسكري الملاحظ من خلال التركيز على مساحة جغرافية بعينها، سبق أن اتبعه نظام اﻷسد في بداية انتعاشته وانتكاسة الفصائل المعارضة، وترتكز تلك التكتيكات على استهداف مناطق محدودة أو اتباع خطوات دقيقة ومدروسة بهدف عزلها بعيداً عن غيرها، وبلغةٍ أخرى اﻻستفراد بها بعد إفراغها من المدنيين، ومن ثم معاودة قضم والتهام غيرها.
كسر الجمود
وبما أنه ليس من مصلحة جميع اﻷطراف الدولية إبقاء ملف إدلب وعموم الشمال خارج السيطرة، فإنّ أي تصعيد بعد الهدوء يندرج حتماً تحت مسمى "كسر الجمود" وتحريك عملية التفاوض السياسي، ﻹرضاخ الطرف اﻷضعف في المعادلة.
بالتالي؛ تسير الخطوة خطوة وفق مساراتها المحددة، والهدف الحالي يتمثل بإفراغ جميع المناطق بريفي حماة وادلب بشكل طولي وعمق ١٥ كيلومتر، وهذا ما يتوافق مع اتفاق المنطقة منزوعة السلاح.
ملفات عالقة
تحاول موسكو من خلال حملتها العسكرية حسم ملفات أستانة العالقة وفي مقدمتها بعد كسر الجمود الحاصل كما نوهنا إلى، تفعيل وحسم ملف اللجنة الدستورية، وحل هيئة تحرير الشام نفسها أو في أقل تقدير تحجيم نفوذها، وتسيير الدوريات المشتركة الروسية-التركية التي رفضتها المعارضة.
سباق زمني
ووفق المعطيات على اﻷرض؛ فإنّ موسكو تحاول كسب الجولة ميدانياً لتطبيق كافة التفاهمات السياسية حول الشمال السوري عبر إرغام اﻷتراك والمعارضة للنزول عند رغباتها. بالتالي؛ فإنّ المراهنة على استيعاب الفصائل المعارضة لجملة الرسائل الروسية، والدخول مرغمين في السباق لتثبيت نفوذهم العسكري في المناطق المستهدفة بهدف اﻻحتفاظ بها.
عملياً؛ تبدو خيارات المعارضة أيضاً قوية، فالروس ﻻ يريدون مؤقتاً الوقوع في مصيدة احتلال إدلب، وإنما السعي الواضح لفرض شروطهم وضمان مناطق نفوذها والتي تتمثل بالتالي:
- إبعاد خطر المعارضة المسلحة عن المناطق التي تعتبر حاضنة للمسيحيين والطائفة العلوية في الساحل.
- إبعاد شبح طائرات الدرون التي تستخدمها التيارات الجهادية عن مطار حميميم، عبر إيجاد حل يبعدهم بتوافق مع حكومة أنقرة.
كما أنّ روسيا تدرك أيضاً وجود تقارب أمريكي-تركي، مضمونه ملف شرقي الفرات، والذي تتكثف النقاشات التركية الأميركية حوله، وتسعى لكسره عبر الضغط على حكومة أنقرة من خلال التصعيد لجرها إلى طاولة التفاوض مجدداً.
ولدى روسيا أطماع في شرق سوريا التي تعد غنية نفطياً ومائياً، إضافة لكونها منطقة زراعية، وهذا ما يبرر للروس التصعيد اﻷخير.
انهيار سوتشي
وبالرغم من أنّ اﻷطراف الموقعة على اتفاق خفض التصعيد لم تعلن بعد انهياره رسمياً؛ إﻻ أن المؤشرات واﻻنتهاكات على اﻷرض من طرف المحتل الروسي وقوات اﻷسد ترجح ذلك بحسب محللين، على العكس مما يعتقده البعض أنه يدخل في صلب تحقيق اﻻتفاق وترجمته على اﻷرض.
ويعتقد نشطاء معارضون أنّ الحملة هي إعلان دامغ على تنصل موسكو من التزاماتها، كما أنها أبرزت ضعف الجانب التركي بشكلٍ أو بآخر.
صفقة تركية-روسية
بينما يعتقد محللون أنّ التصعيد اﻷخير يهدف إلى استباحة إدلب بأكملها، وتشير بعض التسريبات إلى وجود صفقة بين موسكو وأنقرة، تحصل بموجبها تركيا على تل رفعت وقرى تسيطر عليها الوحدات الكردية، بينما تتوسع روسيا في المناطق منزوعة السلاح، بحسب اتفاق سوتشي.
بالمقابل؛ تتصادم الرغبات بين أنقرة وموسكو؛ فالمصلحة التركية في المرحلة الراهنة تتلخص في عدم تصفية الفصائل الرافضة للاتفاق، مثل؛ هيئة تحرير الشام وجيش العزة وتنظيم حراس الدين.
من جهةٍ أخرى؛ لم يتبلور بعد الاتفاق حول تل رفعت، إضافةً لما تواجهه أنقرة من صعوبة حسم ملف هيئة تحرير الشام.
وبالتالي؛ استراتيجية الخطوة خطوة تفرض إيقاعها، ولدى موسكو أهداف واضحة من التصعيد فهي بالتأكيد تريد تطبيقا حرفيا كاملا لاتفاق سوتشي بما يضمن؛ تصفية التيار الجهادي ووجود اﻷجانب (المهاجرين)، إضافةً لضبط العمل العسكري المتاخم لمناطق نفوذها، ﻻسيما مطار حميميم والمرافئ التي تعتبر قاعدة وجودها؛ وهذا يعني أن من مصلحة روسيا تطبيق اﻻتفاق حتى وإن كلفه اﻷمر احتلال إدلب، وبعبارةٍ أخرى إسقاط اﻻتفاق.
روسيا مقيدة
المعطيات السابقة تعيد التأكيد أنّ موسكو مقيدة سياسياً وعسكرياً، حيث تشير الكثير من التحليلات والتسريبات عن إمكانية تحويل ملف إدلب إلى مجلس اﻷمن، لكن بالمجمل ما يمنع موسكو من إجهاض اتفاق سوتشي، النقاط التالية:
الرفض الدولي وتحديداً اﻷوروبي لعملية اجتياح كامل؛ ﻷنها ستسبب عمليات نزوح جماعية ليس لدى الجانب اﻷوروبي وﻻ حتى التركي القدرة على التكيف معها. وسبق أن رفضت وزارة الخارجية الأميركية ذلك في بيانٍ لها.
القوات الروسية البرية ومعها قوات اﻷسد غير قادرة على مواجهة مباشرة طويلة اﻷمد على اﻷرض؛ حيث تدرك موسكو أن احتلال إدلب سيعني التحول من قتال جيوش نظامية إلى حرب عصابات، تتقنها المعارضة وﻻسيما التيار الجهادي، الذي من الممكن أن يتحول إلى رأس حربة كما حدث في فترة سابقة.
ميدانياً؛ ما يسمى بغرفة عمليات وحرّض المؤمنين والتي تنشط مؤخراً، وهي مزيج من حراس الدين وأنصار التوحيد؛ بإمكانها استقطاب مقاتلين جدد في حال ارتكبت موسكو خطأ سيجعلها تدخل المصيدة وتصبح هدفاً أسهل في الداخل لعشرات اﻵﻻف من المقاتلين المستعدين لمعركة الوجود والمصير.
وتخشى روسيا الدخول في مغامرة قد تعني بلحظةٍ ما إعطاء الضوء اﻷخضر التركي لبعض الفصائل المحسوبة عليها لتشكيل غرفة عمليات أوسع، وتشير تحركات تحرير الشام والجبهة الوطنية والجيش الوطني وجيش العزة، منذ نحو شهرين تقريباً إلى إمكانية وﻻدتها، مع محاوﻻت حقيقية للدفع باتجاه انخراط "حراس الدين" ضمنها، وتحت جناحها، وإن لم توافق هذه اﻷخيرة لكنها أعطت سقفاً للتعامل.
أخيراً؛ تسعى موسكو في اﻵونة اﻷخيرة إلى تحجيم الدور اﻹيراني، وتشير التقارير إلى تصاعد وتيرة الخلاف بين الجانبين، بالتالي عدم جاهزية الروس الكاملة لحرب استنزاف.
حرب محدودة
إنّ كل ما يحدث يؤكد عدم وجود أو إمكانية قيام عمل عسكري واسع وموسكو بات واضحاً تماماً أنها متمسكة بمسار أستانا، وفي حال جلوس الضامنين الروسي والتركي على الطاولة فإنهما سيطرحان فكرة انسحاب الفصائل المعارضة من المنطقة العازلة.
بالمقابل؛ المنطق يؤكد أن فشل التفاوض وضعف المعارضة عن صد الهجوم المتوقع (المحدود) على ريف حماة الشمالي وحوض العاصي خسارة إحدى أوراق القوة للثورة.
رسائل روسيا
بالمحصلة؛ رسائل موسكو تحمل اتجاهين؛ الشق اﻷول للمدنيين الذين تريد منهم إجبار هيئة تحرير الشام على حل نفسها، ومن جهةٍ أخرى، إرغام كل من جيش العزة والهيئة على القبول بتسيير الدوريات الروسية-التركية المشتركة.
تحرير الشام تبدي مرونة
وأخيراً تشير تسريبات داخلية عن قبول هيئة تحرير الشام تسيير الدوريات ولكن برعايتها، ما يعني أنّ مسار التفاوض مرنٌ إلى حدٍّ ما، شريطة التوصل إلى صيغة بين موسكو والهيئة.
نهاية اﻷمر؛ من المبكر القول بحرب واسعة النظاق، لكنها معركة كسر العظم التي تدور في ريف إدلب وحماة.