بلدي نيوز- (تركي المصطفى)
مدخل
على نحوٍ يجمع بين محاربة "الإرهاب" و"مساندة الأسد" وحماية قاعدتها البحرية في طرطوس؛ تمثَّلت استراتيجية روسيا العسكرية في مختلف سجالات الحرب داخل الأراضي السورية، لكن مع دخول موسكو عامها الرابع من الحرب منذ سبتمبر/أيلول 2015، لوحظ وخاصة خلال الأشهر القليلة الماضية، التركيز الروسي المتزايد على إذلال الأسد من خلال صوره المسربة في لقاءاته مع الرئيس بوتين، وكشف الغطاء عن تواطؤ الأسد مع "إسرائيل" في تسليم رفات الجنود الإسرائيليين بالإضافة للتفاهمات الدولية والإقليمية بين روسيا و"إسرائيل" من جهة، وبين الولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى والتي أنتجت القصف الجوي الإسرائيلي المستمر ضد المواقع العسكرية الإيرانية، وتفعيل العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد إيران ونظام الأسد، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في مناطق نفوذ النظام وأتاح لروسيا الإسراع بعملية انقلاب داخل نظام الأسد، وفق ما تقتضيه المصالح الروسية والإسرائيلية، علاوة على المصالح الأميركية وذلك بإعادة هيكلة بقايا جيش الأسد، وبتغيير موازين القوى أمنياً، والبت بملف الصراع مع "إسرائيل" بما يضمن مصالح الأخيرة وأمن حدودها.
من هذا المنطلق، تناقش الورقة الاستراتيجية العسكرية لروسيا وملامح تحولاتها الراهنة، وتأثيراتها المتوقعة في مسار انقلابها الجاري على الأسد ونظامه، والاقتراب من استبداله بنظام آخر يشبهه استبدادا وعبثا بالقضايا الوطنية برعاية دولية.
مقدمات الانقلاب
اتخذت روسيا من قاعدتها الجوية في "حميميم" مركزا رئيسيا لإدارة مستقبل البلاد، وتحديد مساراته السياسية، بعد محاولة استفرادها الدولي والإقليمي والمحلي في سوريا، إثر الأزمة الدولية المتعلقة بالملف النووي الإيراني وتداعياته الأخيرة التي تعصف بشريكتها في سفك الدم السوري.
تربض القاعدة الجوية الروسية في مطار "حميميم" بمكان يتوسط ساحل المتوسط بين اللاذقية وسلسلة جبال العلويين، تصل إليها طرق رئيسية وأخرى فرعية، وقد حاول الإيرانيون وفقاً لتجارب عسكرية مرت بها المنطقة، مواجهة استراتيجية الانقضاض التدريجي الروسي للاستفراد بنظام الأسد، في محاولات متكررة واجهها الروس باستغلال الظروف الدولية والإقليمية للانقضاض على مراكز النفوذ الإيراني المتمثلة بالتعاون مع "إسرائيل" في استهداف مراكز القوة الإيرانية الضاربة، وبضرب االميليشيات المحلية والتخلص من كبار ضباط الأسد الموالين لإيران، وفق خطوات تحمل في ظاهرها الضرب على أيدي العصاة، وفي باطنها احتلال سوريا والاستفراد بها بلا شركاء، بما يضمن استثمار مصالحها بهدوء، ويمكن تفصيل خطوات الانقلاب بما يلي:
قطع الأذرع
تمثلت هذه الاستراتيجية ببتر أذرع ميليشيات الشبيحة وتفكيكها وتفتيتها، وبالأخص التي تتمركز في مداخل قاعدة "حميميم" العسكرية، وتلك التي تحيط بها من كل الاتجاهات وتسيطر على كل الطرق الرئيسية والفرعية الواصلة إلى القاعدة، وتقترب من الوحدات العسكرية الروسية النوعية الحامية لها، حيث بدا ذلك التمركز سلمياً في ظاهره ويدخل في إطار الشراكة لمحاربة الشعب السوري، ولكن في حقيقة الأمر كانت ميليشيات الشبيحة نظام مافيوي داخل نظام مافيوي أوسع، انخرطت في صراع مع أذرع كيان الأسد، مما أوهن من قوتها، فباتت موسكو تفرض سيطرتها على مجمل منطقة الساحل السوري، حيث عطلت تلك الميليشيات الحياة العامة وعاثت في المنطقة فسادا، وتعامل الروس معها بداية بضعف وتساهل وتواطؤ بما يضمن مصالحها. وفي هذا السياق؛ لتعطي الأسد فيما بعد أمرا لحلّها، وذلك عقب استدعائه من الرئيس بوتين إلى "سوتشي"، فاصطدم بميليشياته التي أطلق يدها في استباحة دم السوريين وبات عاجزا عن حلّها، لا سيما أنها أصبحت أشبه بجيش مدجج يضاهي قواته، لذلك تدخل الروس بكل قوتهم في الاقتتال الداخلي بين المليشيات الطائفية، فأطاحوا بداية بـ "أيمن جابر" صهر عائلة الأسد، الأكثر نفوذاً وسلطة في سوريا، والمؤسس والداعم لـميليشيات "مغاوير البحر"، و"صقور الصحراء" الخاصة، وصادروا أملاكه وفككوا ميليشياته مبررين ذلك باتهامه التعاون مع "جعفر شاليش" في استهداف قاعدة "حميميم" العسكرية الروسية ليلة رأس السنة في العام 2018، بتواطؤ مع الإيرانيين، وتلا ذلك تفكيك ميليشيا "جمعية البستان" في ريف القنيطرة، وهي إحدى أهم مليشيات الشبيحة في القنيطرة التي تلقى العشرات من عناصرها تدريبات خارجية في إيران، وتخضع بشكل مباشر لسيطرة ميليشيا "حزب الله" اللبناني في القنيطرة، وأتى حلّها لرفضها الانصياع لأوامر روسيا المتعلقة بإبعاد المليشيات الإيرانية، وتلك التابعة لـ "حزب الله" عن الحدود السورية – الإسرائيلية، وهي في الأصل مؤسسة "ربحية" لصاحبها ابن خال بشار "رامي مخلوف"، تحولت أثناء الثورة إلى مليشيا مسلحة موالية للنظام يمولها مخلوف بشكل رئيسي، وتعتبر من أكثر المليشيات ربحية عبر اقتصاد الحرب، وسيطرتها على طرق تهريب رئيسية للسلاح والمخدرات خاصة بالقرب من الحدود اللبنانية بالتعاون مع مليشيات "حزب الله"، كما وشهدت الفترة الأخيرة سحب الأسلحة المتوسطة والثقيلة من بعض الميليشيات، متل ميليشيا "أحمد الدرويش" في ريف حماة الشرقي.
جزّ الرؤوس
كان الوجود الروسي في سوريا أسبق من العام 2015م، حيث قامت بالتعاون مع إيران بتوجيه السياسة العامة للأسد ومساندته ومراقبة مراكز قواه العسكرية والأمنية، فبدأت موسكو باستراتيجية تصفية كبار ضباط الأسد انطلاقا من تصفية مجموعة " خليّة الأمّة" التي قادها آصف شوكت بهدف محاولة الانقلاب على صهره الأسد، فباءت بالفشل إثر التفجير الكبير الذي أودى بحياة الانقلابيين في مبنى الأمن القومي، وتلا ذلك سلسلة من التصفيات، كاغتيال الضابط الدرزي "عصام زهر الدين" إثر تصريحاته التي توعد فيها اللاجئين السوريين في حال عودتهم إلى سوريا، ما أثار ردود أفعال دولية غاضبة خصوصاً لدى الدول التي تؤي أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين، وتبحث عن حلول لتخفيف عبء ملف اللجوء عليها، فضلاً عن أن "زهر الدين" مُتهم بارتكاب انتهاكات ومجازر في المدن التي قاتل فيها، وقبل ذلك اغتال النظام اللواء "رستم غزالة"، وربط بعض المتابعين مقتل اللواء الركن "أحمد محمد حسينو"، الذي كان يشغل منصب رئيس أركان ونائب مدير إدارة كلية الوقاية الكيميائية في قوات نظام الأسد، بإعادة الاهتمام الدولي بملف السلاح الكيميائي، بالإضافة إلى أن هذه الاغتيالات نهج لدى الأسد في التخلص من "شهود جرائمه" الذين يملكون معلومات خاصة، وهذا ما حصل سابقًا لـضباط ومسؤولين كُثر في النظام، تمت تصفيتهم على مراحل مختلفة، وإن تصفية الضباط الأخيرة كقادة الفرق وعلى رأسهم قائد الفرقة الحادية عشرة العماد "علي الحسين"، تأتي في سياق الاستراتيجية الروسية في إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية بما يتناسب وسياستها في احتلال البلاد.
تفتيت الأوصال
شكلت روسيا بشكل تدريجي قوات كبيرة في سوريا عمادها الفيلق الخامس اقتحام، وصنعت شخصيات عسكرية كـ "سهيل الحسن" لتعبئة طاقات العلويين المنهكة في العام 2015م عام التدخل الروسي، حينها كانت إيران تلعب الدور الأساسي في الهيمنة على قرار الأسد، لهذا ارتكزت استراتيجية روسيا على محدد رئيسي هو: تشكيل قوات بهدف تحقيق أهداف تدخلها في سوريا، ويتمثل الإطار العام لهذه الاستراتيجية في إضعاف الميليشيات الإيرانية في المناطق الخاضعة لنفوذ الأسد، وخلق انطباع سلبي داخليًّا وخارجيًّا إزاء قدرتها على تحقيق أي تقدم على الأرض دون الغطاء الجوي الروسي، ومن ثم راحت موسكو تعمل على إزاحة النفوذ الإيراني في المنطقة الوسطى وتحديدا في حماة، اعتمادا على استراتيجية مرحلية تمكنت من خلالها سحب العديد من ضباط نظام الأسد التابعين لفرع المخابرات الجوية لصالح الروس، وفي مقدمتهم العقيد "سهيل الحسن" العميل السابق لإيران، وقد لعب "الحسن" دورا كبيرا في تطويع العدد الأكبر من العلويين في الميليشيات التابعة لروسيا، والهيمنة الروسية التامة على جهاز الأمن العسكري وفروعه في المحافظات السورية، وبناء قدراته وتعزيز تدريبه على حساب الأجهزة الأمنية الأخرى، وكذلك في انضمام ميليشيات "طراميح قمحانة" وأحمد الدرويش للفيلق الخامس، وكذلك التحكم بالمعابر الرابطة بين مناطق نفوذ المعارضة وتلك الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد، وآخر ما قامت به روسيا هو طرد عناصر مكتب أمن الفرقة الرابعة الموالية لإيران من معبر مورك، فضلا عن سيطرتها على الشريط الساحلي السوري بما يحوي من موانئ ومطارات، مما حرم إيران من الوصول إلى ساحل المتوسط، وأزاحت الميليشيات الإيرانية من مواقعها في ريف حماة المشاطرة للمناطق المحررة، حيث عملت موسكو على بناء عدة نقاط مراقبة عسكرية في قرى الطليسية والكتيبة الواقعة بالقرب من معردس وفي مزرعة الترابيع جنوب حلفايا، وفي تل صلبا جنوب شرق السقيليبة وفي مبنى حوض العاصي في سهل الغاب، وقد تزامنت الخطط الروسية مع قصف إسرائيلي مكثف للقواعد الإيرانية المنتشرة في أرياف دمشق وحلب وحماة وغيرها من مواقع عسكرية إيرانية باتت هدفا للطيران الإسرائيلي، مما جعل العناصر المحلية من المتطوعين في الميليشيات الإيرانية تتجه إلى القوات التي شكلتها روسيا للحماية من الطيران الإسرائيلي والحصول على راتب شهري مضاعف، وبذلك أفشلت روسيا محاولات إيران ترسيخ وجودها العسكري في محافظة حماة.
وبالنظر إلى هذه المعطيات ونتائجها؛ تتكشف أبعاد الاستراتيجية الروسية في تفتيت أوصال الأسد وإمكانية اضطلاعها بدور كبير في أي صدام قد يندلع بينها وبين إيران.
الانقضاض على الفريسة
استغلّت روسيا فرصة التنافس الإسرائيلي الإيراني وتفاهماتها مع وشنطن في ترتيب أوراق الجنوب السوري، والتي تقضي بإبعاد الميليشيات الإيرانية 80 كم عن الحدود مع الجولان المحتل، فانقضّت على العاصمة دمشق وتمركزت قوتها في أهم مناطق العاصمة، وهي منطقة البنك المركزي ووزارة الداخلية، وعلى عقدة الطريق الرابط بين مركز العاصمة والمطار الدولي، كما انتشرت في منطقة كفر سوسة والمزة وهذه المنطقة يقع في محيطها الأول أكبر تجمع مخابراتي لنظام الأسد، منها قيادة المخابرات العسكرية وأمن الدولة والمخابرات الجوية، كما تقع في محيطها الثاني وزارة الخارجية، وموقع التلفزيون الذي يسيطر عليه نظام الأسد، وكذا مراكز حيوية مدنية أخرى، علاوة على انتشارها العسكري في الغوطة الشرقية.
هذا الانقضاض الروسي، يأتي وفق استراتيجية التضييق على الإيرانيين، لتلبية مطالب "واشنطن وتل أبيب"، والمتمثلة بطرد الميليشيات الإيرانية من الجنوب السوري، ومن ثمّ تنفيذ مخرجات "سوتشي"، وقد تزايدت التصعيدات الروسية إلى حدٍّ دفع الشرطة العسكرية الروسية إلى تفتيش حاملي السلاح، باعتبارهم معنيين بحماية المكان الذي توجد فيه مقار حكومية ودبلوماسية كثيرة.
وما قامت به الشرطة العسكرية الروسية في مخيم اليرموك، من إهانة لعناصر ميليشيا الأسد، واقعة استثمرها الروس سياسياً وإعلامياً بقوة وذكاء، آخذين على عاتقهم نهج الانقضاض على العاصمة والنيل من قوة الميليشيات الإيرانية وتمزيقها، بغية السيطرة التدريجية على العاصمة ومحيطها بعد أن اتسعت لتشمل غالبية المناطق الحيوية فيها.
نهاية الأسد الوشيكة
على مدار سنوات الحرب الجارية قام الأسد بقتل ما يقارب مليون سوري، بأسلحة الدمار الشامل، بمساعدة إيران ومن ثم روسيا، فضلا عن تشريد نصف سكان سوريا وتدمير مساحات شاسعة من المدن (منازل وشركات ومدارس ومرافق رعاية صحية وبنية تحتية مثل شبكات الكهرباء والطرق)، ومن بين هذا الركام يقف "الضبع" ليعلن انتصاره على الشعب السوري، مطالبا روسيا بإعادة تأهيله ومن ثم تأبيده في الحكم مكافأة له على ما حققه من المصالح لروسيا و"إسرائيل"، ولكنه لم يدرك أنه بات بلا أحشاء ولا رؤوس أو أذرع، بعد أن فقد الأوراق التي تلاعب بها على مدار سني الثورة، فقد سقطت ورقة الحرب على الإرهاب مع نهاية "داعش"، وبات شركاؤه الإيرانيون في سفك الدم السوري على وشك الهزيمة في سوريا، فيما لم تسع روسيا في تدخلها بالحرب السورية لتثبيت الأسد كان وما زال هدفها استعادة مكانتها كقطب دولي إلى جانب الولايات المتحدة، لذلك فهي ليست على استعداد لمعاداة الولايات المتحدة وأوربا لأجل بقاء الأسد في السلطة، كما أن موسكو تعاني مما يسمى بمتلازمة أفغانستان التي سبقت انهيار الإمبراطورية السوفيتية، فأشباح الحرب في أفغانستان ما تزال تطارد أروقة الكرملين.
من هنا؛ تدرك روسيا صعوبة تصريف الأسد بإرثه الإجرامي في سوق النخاسة السياسية، مما وسّع فجوة عدم الثقة بين روسيا ومحور إيران التي شحنت الأسد إلى طهران برفقة قاسم سليماني، وما تلا ذلك من اجتماع رؤساء أركان الأسد وإيران والعراق في دمشق كردة فعل انتقامية على الحليف الروسي الذي يملك أوراق ضغط داخلية وإقليمية ودولية، ولا يحتاج لانقلابيين محليين من أمثال جنرالات الانقلابات في مصر والسودان والجزائر، يكفي روسيا أن تترك الأسد ومؤيديه يتراقصون في طوابير طويلة على أنغام الممانعة في شوارع دمشق حتى الانهيار الذي بات وشيكا.