بلدي نيوز – (تركي المصطفى)
تشهد المعركة الدائرة في ريف البوكمال الشرقي انكماش تنظيم "داعش" في جيب صغير أخير، نتيجة تقدم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تساندها طائرات التحالف الدولي، لتتسع دائرة السيطرة لـ "قسد" وتضيق الأرض بالتنظيم، بعد تنوع قواعد ووسائل الاشتباك، ويمكن ربط حصر تنظيم "داعش" في قرية صغيرة بالتطورات المحمومة بين أطراف المواجهة، ولكن السؤال المستمر هل يمكن لهذا التنظيم أن يعيد ترتيب صفوفه استعدادا لجولة أخرى تمكنه من اعتماد حرب استنزاف طويلة الأمد في صحراء تتبدل تشكلاتها التضاريسية حسب مناخ العلاقات الدولية والإقليمية، يهدد من خلالها مسرح العمليات العسكرية، مفسدا على أطراف الصراع نشوة "النصر"، رغم تحديد (ترامب) موعد انهيار التنظيم نهاية شهر فبراير/شباط الجاري؟.
هذا الانهيار المتسارع للتنظيم ليس وليد اللحظة؛ إنما يتوافق وخطابه الإعلامي الذي جسده في مقولة "اعلموا أنّ لنا جيوشاً في العراق، وجيشاً في الشام، من الأُسود الجياع، شرابهم الدماء، وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات"، مما يعكس جوهر وحجم ونوع القتل، والممارسات والترويع، الذي قام به عندما بسط سيطرته على مناطق واسعة في سورية، سواء في مواجهة الأهالي أو فصائل الثورة السورية، وكذلك الأطباء والإعلاميين، والناشطين المناهضين لنظام "الأسد"، بينما اكتفى بالتقهقر والاندحار أمام ميليشيات مختلفة، دون أن يبدي مقاومة تتناسب وشعاراته المعلنة في الدفاع والتمدد، مما يشير إلى ماهيته والسبب الرئيس لإيجاده في إقليم يتطلع للخلاص من الأنظمة الاستبدادية المرتبطة بمصالح إقليمية ودولية.
هذه التطورات العسكرية الدائرة في المربع الأخير للتنظيم؛ تتزامن مع تحولات سياسية ترسم تشكيل وترتيب وتموضع الميليشيات الإيرانية، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، في سباق محموم للسيطرة على منابع النفط والمرافق الحيوية، بانتظار ما سيحدثه (قرار الانسحاب الأميركي) من تنفيذ لاستراتيجية الحلفاء، وما يماثله سوتشي من استحقاقات لمحور روسيا.
في نهج التذكير بغصات ومواجع الثورة وما أحدثه تنظيم "داعش" من نتائج كارثية طالت الجيش السوري الحر، الذي حرر القسم الأكبر من (وادي الفرات)، ظهر خطاب دولي يتماثل مع رؤية نظام "الأسد" الذي ركز على "الإرهاب"، دون أن يفعل شيئا سوى التضحية بمعسكراته المتناثرة، ليتملق الغرب في كيدية سياسية مبتذلة، على أن نظامه ضحية للإرهاب، ولطالما قرع إعلامه طبول الحرب لاستجداء الروس والأمريكان وإيران للوقوف معه، وتلك الدول تدرك أن ورقة الحرب على الإرهاب مكشوفة، وأن حقيقة وجوهر الصراع أبعد من "داعش"، فقد قدم "الأسد" سورية الدولة على طبق من بلور للروس والأمريكان، ومن يشتهي من دول الإقليم.
ومع دخول الروس معترك الحرب، بات الإرهابيون من وجهة نظر محاليف "الأسد" هم الشعب السوري الثائر وأذرعه العسكرية، فدمرت الطائرات الروسية مدنا وبلدات وقرى سورية، فوق رؤوس أهلها تحت مدعى الحرب على "داعش".
التنظيم والتحالف.. تفريغ وادي الفرات من أهله
بعد تمكن قوات سوريا الديمقراطية بمساندة طيران التحالف من السيطرة على كامل طرق الإمداد والبلدات المتقدمة؛ تشرذمت الأنساق الخلفية لقوات التنظيم، وازداد وضعها سوءا وضاقت مساحة الأرض تحت أقدام مقاتليه، وبات محصورا في قرية "الباغوز فوقاني" وهي قرية صغيرة لا يتعدى عدد سكانها 10 آلاف نسمة، منقسمة إلى جزءين: الباغوز الفوقاني والباغوز التحتاني؛ وهي تتبع ناحية السوسة في منطقة البوكمال في محافظة دير الزور قريبة جداً من الحدود السورية - العراقية، وهي محصنة بالنهر وبجبل قربها اسمه كفا الباغوز.
وأمام انكفاء التنظيم في هذا المربع، كثف التحالف الدولي الذي تقوده "واشنطن" من طلعاته الجوية، التي استهدفت هذه المنطقة منذ مطلع العام الجاري، يساندها مدافع وراجمات القوات الفرنسية التي ركزت قصفها على الأجزاء الخاضعة لسيطرة "داعش" في قرية الباغوز، وكانت إحدى هذه الراجمات استهدفت مخيماً للمدنيين على أطراف القرية، ما تسبب باحتراق خيام عدة وسقوط العشرات بين قتيل وجريح معظمهم نزحوا من قرية السوسة القريبة من الباغوز، أي أنهم فروا من الموت إلى الموت.
ولا توجد معلومات مؤكدة عن عدد المدنيين الذين تقطعت بهم السبل في البقعة الجغرافية الضيقة التي لا تزال تحت سيطرة "داعش"، ولكن شبكات إخبارية محلية أشارت إلى أن أكثر من ألف شخص جلهم من النساء والأطفال خرجوا، يوم الإثنين الماضي، من قرية الباغوز إلى مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية، التي أقامت مخيمات لا تتوفر فيها مقومات الحياة الأساسية، علاوة على تدمير القرى والبلدات والجسور الرئيسية والفرعية الواصلة بين مناطق سيطرة التنظيم، وتلك التي تحتلها كل من الميليشيات الإيرانية في ضفة الفرات اليمنى، و"قسد" في الضفة المقابلة.
معركة الباغوز.. انهيار التنظيم ونجاح التحالف
أبطأت الألغام التي زرعها التنظيم والكمائن المفاجئة، كإجراء دفاعي أول، تقدم الميليشيات التي يدعمها التحالف باتجاه الباغوز وقتيا، مما دفع بالأخير للضغط على المنطقة بزجه قوات نخبة من "المارينز" البرية إلى المحور الشمالي الشرقي من الباغوز، ومن بين هؤلاء متخصصون في حرب المدن والمهام الخاصة، واتبع التحالف استراتيجية عسكرية، أربكت تشكيلات تنظيم "داعش" وأجبرته على تغيير خططه، مما أخل بتوزيع وتنظيم قواته، فتراجع إلى خطوط خلفية أكثر تحصينا، فيما اقتحمت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من التحالف المدينة من عدة محاور وسط مقاومة عنيفة، لأن من تبقى من مسلحي التنظيم والذين لم يستسلموا لقوات التحالف الدولي أغلبهم أجانب قرروا المقاومة حتى الرمق الأخير، مستفيدين من تعطّل دور الطيران بسبب اقتراب نقاط التماس مع ميليشيات "قسد"
ومع تراجع التنظيم إلى الأحياء الداخلية للباغوز؛ تزايد التدخل البري للقوات الأميركية على الأرض، وتوجهت قوات من فرقة الكوماندوس الأميركية التي قتلت أسامة بن لادن، إلى ريف دير الزور الشرقي، لاحتمال وجود زعيم "داعش" أبو بكر البغدادي في منطقة الباغوز، أو وجود كميات من الذهب المسروق من العراق وسورية.
ومع هذه التطورات الميدانية، تجري مفاوضات مكثفة للتوصل إلى اتفاق يفضي إلى تسليم آخر جيوب التنظيم وخروج آمن لعناصره بحماية طائرات التحالف، ولكن رفض واشنطن خروج المقاتلين الأجانب من جيب الباغوز واشتراطها استسلامهم، جعل الخيار الوحيد لديهم القتال حتى الرمق الأخير.
وبالنتيجة، فإن معركة السيطرة على الباغوز مسألة وقت لا أكثر لإعلان انتهاء تنظيم "داعش" في هذه المنطقة واحتفال "الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني" بالنصر على أنقاض البلدات والقرى التي دفنت تحتها آلاف المدنيين من أهالي وادي الفرات، فيما يتبقى للتنظيم جيوباً جغرافية متباعدة الأطراف داخل البادية السورية حول تدمر وفي المناطق القريبة من الحدود السورية – العراقية وفي ريف السويداء الشرقي، بالإضافة للخلايا النائمة في كل من سوريا والعراق.
السيطرة على منابع النفط
مع تجلِّي الكثير مما يجري في (وادي الفرات) عسكريا وسياسيا؛ يتضح بما لا يترك مجالا للشك، سعي موسكو وواشنطن إلى تقاسم النفوذ والمكاسب، كل بحسب ما يملك من قوة على الأرض، فروسيا التي تعمل على تعزيز طموحها السياسي والاقتصادي والعسكري كقوة كبيرة، ذات تطلع دولي، تدخل في سباق مع الولايات المتحدة التي تعاني أزمة سياسية داخلية خانقة، تتعلق بشرعية رئيسها (ترامب)، وبناء على ذلك؛ فالظاهر يشير إلى تفاهم وتنسيق بينهما ولكن المستقبل يشي بخلافات عميقة قابلة للانفجار في كل لحظة، أما الاتفاق الأكيد بينهما فهو التفاهم المشترك منذ البداية على أهداف استراتيجية باتت تتبلور وفق تعزيز نفوذهما المطلق في منطقة (وادي الفرات)، بما يحقق الاحتلال العسكري المباشر للمنطقة الغنية بثرواتها، والتي تشهد تنافسا بين إيران و"قوات سوريا الديمقراطية"، وتقوية روسيا لمركزها السياسي دوليا، في مواجهة الولايات المتحدة، للضغط عليها، لتسوية قضايا خلافية كبرى، في (أوكرانيا) وشرق أوروبا، والعقوبات الاقتصادية، مما أدى إلى تقسيم منطقة (الفرات) إلى كيانين منفصلين، الأول "الجزيرة" ويمتد من أعالي وادي الفرات وحتى الباغوز على الحدود السورية العراقية، تكون السلطة فيها لميليشيات قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بحماية أميركية، والثاني الشامية التي تضم المنطقة الواقعة على ضفة الفرات اليمنى، تبدأ من ريف منبج الجنوبي وحتى مدينة البوكمال، والسلطة فيها لنظام "الأسد" والإيرانيين بحماية روسيا، فيما وقعت السيطرة الفعلية الروسية الأميركية على آبار النفط المحاذية لضفتي النهر في دير الزور، تزامنا مع ايجاد صيغ معينة لامتيازات التنقيب والاستثمار مستقبلا.
وبدا لافتاً أن اللقاءات الثنائية بين موسكو وواشنطن، قد تجسدت على شكل تفاهمات تقضي بإعادة تشغيل حقول النفط ونقاط التوزيع والنقل، بإشراف فنيّ روسيّ، وحماية أمنية توفرها الولايات المتحدة على شاكلة اتفاق نفط (رميلان) في محافظة (الحسكة)، وينساق هذا على مجمل آبار النفط في (وادي الفرات).
وباتت هذه الأهداف واضحة وفي طريقها للتنفيذ، بعد أن تمكنت روسيا والولايات المتحدة من تذليل العقبات بعد اتفاقية التنسيق العسكري بينهما، أو ما يسمى "منع التصادم"، فحققتا من وراء ذلك مكاسب عسكرية على حساب تنظيم "داعش" الآيل للسقوط.
مآلات النهاية.. من المستفيد ومن الخاسر؟
بعد اندحار تنظيم "داعش" من مجمل المساحات الجغرافية الشاسعة، في العراق وسورية، وبعد أن فرض إرادته وسلطته وقوانينه في مجتمع رزح طيلة نصف قرن تحت نير الفقر وغلاء الأسعار وتدني مستوى المعيشة، وإلغاء مشاركته في الحياة السياسية، وما يتصل بذلك من ملاحقات أمنية، سار على ذات المشهد الدرامتيكي، وذلك بالتخلص من القادة العسكريين وناشطي الثورة المدنيين، وأما فصائل الجيش الحر والمجاميع القبلية التي تصدت له، فقد تعرضت لمذابح جماعية وانهارت أمام مقاتلي التنظيم ليكون عاملا أساسيا في وأد الثورة ضمن وادي الفرات.
الآن، وبعد تقهقره وتراجعه إلى مساحة جغرافية تضيق به تدريجيا أمام ضربات قوات التحالف الذي تقوده واشنطن، فلا شك أنه يواجه نهايته الحتمية بعد أن افتقد موارده المالية المتنوعة، كخسارته مراكز الطاقة، وكل المعابر الحدودية مع تركيا والأردن والعراق، وخطوط إمداده التي كان يسيطر عليها، فانعكس ذلك سلبا على تحركاته الميدانية ولم يتوقف الأمر عند قطع الإمدادات، أو الدعم المالي عن التنظيم فقط، ولكن العمليات العسكرية الجوية والبرية أفقدته العشرات من قادته، وبات ذلك من أبرز الأسباب الرئيسية لانهياره وتفككه.
وفي هذا السياق؛ جاء تصريح الرئيس الأميركي ترامب: "الولايات المتحدة سوف تسيطر قريبا على نسبة 100 بالمئة من أراضي تنظيم داعش في سوريا".
وأضاف في تغريدة له: "إن الإعلان الرسمي عن تحرير كامل الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش في سوريا والعراق، ربما يكون الأسبوع المقبل"، ووفق ما يجري من انتهاكات في (وادي الفرات)، والعبث بمصير منطقة ذات مساحة كبيرة مأهولة بالسكان، من المبكر الحديث عن انهيار تنظيم "داعش" وهزيمته عسكريا، رغم مؤشرات اندحاره عاجلا أو آجلا في جيبه الأخير، فلطالما بقيت الأسباب التي أنجبت التنظيم قائمة، كأحد محركات الصراع في المنطقة، والمتمثلة في إطلاق يد الميليشيات الإيرانية وما تفعله في المنطقة، وأخرى تعمل بأحلامها القومية عبر الصورة الصادمة القادمة من منطقة الباغوز، واستمرار بقاء نظام "الأسد" الديكتاتوري في سدة الحكم، مع كل جرائمه الشنيعة، وتغليب الغرب مصالحه الخاصة على مصلحة الشعوب الأخرى، بدوافع تاريخية ثأرية نفعية، بات الفصل في الصراع القائم تتحكم به القوة لا إجراءات العدالة، في وقت تراجعت فيه سلطة ما يسمى بـ "الشرعية الدولية"، يجسده تفاهمات ثنائية قد تؤدي إلى تقسيم سورية، لـ "كانتونات" لا يمكن ضبطها بما تشتهي الدول التي تحتل سورية، لاستكمال نهبها بعد أن دمرت غالبية حواضرها.