بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مدخل:
شهدت مناطق الحدود الشمالية السورية المشاطرة لتركيا، خلال سني الثورة، تناميا كبيرا في نشاط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي "ب ي د", الفرع السوري للعمال الكردستاني؛ حيث برز ذلك بشكل مقلق في المناطق السورية التي تطور الأمر فيها، متخطيا النمط التقليدي للكردستاني، القائم على التخريب، إلى إقامة كانتون قومي، وفرض التغيير الديمغرافي بالقوة المسلحة، بحسب تقارير حقوقية، وذلك على نحو ما حدث في المناطق التي يسيطر عليها في تل أبيض ومدينة الرقة والقامشلي وغيرها من المناطق المشاطرة للحدود مع تركيا القلقة على أمنها القومي لسوابق العمال الكردستاني (PKK) خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي, حيث وفر نظام الأسد الدعم اللامحدود للكردستاني في صراعه المسلح مع أنقرة الذي اندلع في 1984، فكان زعيمه عبد الله أوجلان يقيم في دمشق، وسمح للحزب بتأسيس معسكرات تدريبية فوق أراضيه. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1998 بلغت الأزمة بين تركيا ونظام الأسد ذروتها حيث حشدت أنقرة قوات كبيرة على حدود البلدين، مهددة باجتياح الجانب السوري منها إذا استمر نظام الأسد في توفير ملجأ آمن لأوجلان.
جرت وساطات إقليمية لاحتواء الأزمة شاركت فيها جامعة الدول العربية ومصر وإيران، وكان من نتائجها توقيع الدولتين اتفاقا أمنيا بمدينة أضنة التركية يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول 1998، وشكل ذلك الاتفاق "نقطة تحول" رئيسية في مسار العلاقات بين الدولتين.
ما وراء المنطقة الآمنة؟
في الآونة الأخيرة عندما تمكن "ب ي د" من اجتياح المناطق الحدودية، وسيطر على أغلب المراكز السيادية فيها، بمؤازرة مجاميع إسناد محلية معلومة الولاء والتبعية لنظام الأسد، شرع بانتهاج طرق أخرى، لفرض وجوده على ما تبقى من مناطق شرق الفرات، عبر التوسع والانتشار باللجوء إلى خيار "حروب العنف" الذي اتبعه لإخضاع محافظة الرقة، أو في محاولة السيطرة على منبج, وصولاً إلى اجتياح ما تبقى من مناطق شرق الفرات المعروفة بـ"الجزيرة السورية"، تحت مدعى محاربة تنظيم "داعش"، بتمهيد من الطيران الحربي الأميركي.
في السنوات الثماني الأخيرة، برز "ب ي د" كتنظيم مؤدلج مسلح ذي ارتباطات خارجية, تتصدرها, علاقته مع الولايات المتحدة ونظام الأسد، فاعتركت معه القوات المسلحة التركية في عدة معارك بمساندة فصائل الجيش السوري الحر، ثم توافد إلى صفوف "ب ي د" مقاتلون أكراد من تركيا، بدافع قومي، لكون الحزب الكردي يسعى إلى قيام كانتون كردي داخل بلد أغلب سكانه من العرب، أما الدافع الآخر فهو استمرار لعمليات التخريب التي تستهدف الدولة التركية وإن حتى بثوب ديمقراطي أحدثته الولايات المتحدة عندما كونت "قوات سوريا الديمقراطية".
ومنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011م, اتهمت أنقرة الأسد بالتنسيق مع حزب "ب ي د" بتسليم المناطق الكردية المحاذية للحدود التركية إلى "الوحدات الكردية" وهددت تركيا بممارسة حقها في ملاحقة المتمردين الأكراد الأتراك داخل سوريا في حال الضرورة.
وجاءت عملية "درع الفرات" العسكرية التي أطلقتها أنقرة في صيف 2016 "تطبيقا تركياً" لبنود اتفاقية أضنة وملاحقها السرية.
لم تتوقف تركيا في ملاحقة الوحدات الكردية, فأطلقت عملية "غصن الزيتون" في مستهل العام 2018م التي نفذها الجيش التركي إلى جانب فصائل "الجيش السوري الحر" ضد الوحدات الكردية في مدينة عفرين السورية، وأكّد حينها كبار القادة الأتراك على أن العملية تأتي في إطار القانون الدولي وحقها الطبيعي في الدفاع عن النفس. وفي إطار الحقوق التي تمنحها الأمم المتحدة في ميثاقها للدول الأعضاء، ويشير خبراء قانون وباحثون أتراك إلى أن اتفاقية أضنة (1998) بين تركيا ونظام الأسد هي أبرز الأرضيات القانونية التي تستند عليها العمليات العسكرية التركية في شمالي سوريا.
شرعنة المنطقة الآمنة
ما يجب أن يشار إليه؛ لفهم ما دار ويدور، اليوم، من تحرك وتوسع للعمليات العسكرية التركية في مناطق الحدود السورية أنها تأتي استنادا لاتفاق أضنة مع نظام الأسد عام 1998, ولإثبات قانونية عملياتها العسكرية تعمدت أنقرة تقديم رسالة خطية إلى ممثل نظام الأسد في القنصلية السورية في إسطنبول لتبلغه فيها ببدء أي عملية عسكرية مع توضيح الأهداف مدموغة بنصوص اتفاق أضنة، وبما أن نظام بشار الأسد وريث لتركة الأسد الأب بصفته الوظيفية فهو ملزم بتنفيذ كامل بنود الاتفاقية وعلى رأسها البند الذي ينص على "مكافحة الإرهاب عبر الحدود وإنهاء سوريا كل أشكال الدعم لتنظيم العمال الكردستاني وإخراج أوجلان من الأراضي السورية ومنع المسلحين الأكراد من التسلل للأراضي التركية, واحتفاظ تركيا في ممارسة حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس وفي المطالبة بتعويض عادل عن خسائرها في الأرواح والممتلكات، إذا لم توقف سوريا دعمها للحزب الكردستاني فوراً، وإعطاء تركيا حق ملاحقة الإرهابيين في الداخل السوري حتى عمق خمسة كيلومترات، واتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر". ولسد الثغرات القانونية أبلغت أنقرة خطياً الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وقبله بان كي مون والدولة التي تتولى الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي بأهداف أية عملية داخل الأراضي السورية وسندها القانوني.
المنطقة الآمنة بتوافق دولي
لم يتراجع قلق تركيا الأمني، بل تعاظم بقدر ما شهدته وتشهده الحدود الشطرية من تطوراتٍ خلال ثماني سنوات، وبات المطروح اليوم منطقةً تركيةً آمنةً بعرض 20 ميلا، وفق ما حدّدها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أي 32 كلم. بتوافق مع الرئيس التركي أردوغان الذي أبلغ ترمب خلال الاتصال الهاتفي، الاثنين الماضي، أنه ينطر بإيجابية إلى مقترح المنطقة الآمنة، وأنه كان مقترحاً تقدم به للإدارة الأميركية السابقة، وأن ترمب عبّر عن سعادته بالتعاطي التركي الإيجابي مع المقترح.
وعن هذا التوافق, قال مولود جاويش أوغلو وزير الخارجية التركي "إن فكرة المنطقة الآمنة، التي تحدث عنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هي في الأساس مطروحة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ بداية الأزمة السورية". لكن الولايات المتحدة وقوى أوروبية رفضت المقترح. غير أنّ العمليات التي نفّذتها تركيا في أعزاز وجرابلس والباب وعفرين، شكّلت مناطق آمنة بحكم الأمر الواقع، وكانت نتائج هذا الأمر إيجابية بالنسبة للسكان المحليين.
ومن دون إعلان موافقة روسية صريحة على الاقتراح التركي، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن بلاده تنطلق من أن "الأولوية في المسار السوري تكمن في الحفاظ على وحدة واستقلال وسيادة سوريا، وتركيا والولايات المتحدة وغيرهما من أعضاء الأمم المتحدة وافقوا على هذا الهدف"، مؤكداً في الوقت ذاته أنه "بطبيعة الحال، ستكون المصالح الأمنية لدول المنطقة بما فيها تركيا جزءاً من الاتفاقيات التي نسعى إلى بلورتها".
وأعلن لافروف، أن اقتراح تركيا لإقامة منطقة عازلة على الحدود في شمال سوريا سيكون محوراً أساسياً للبحث خلال القمة الروسية - التركية المنتظرة بداية الأسبوع المقبل.
حدود المنطقة الآمنة
إن المنطقة الآمنة التي أعلنت تركيا استعدادها لإنشائها في شمال سوريا بموجب اقتراح الرئيس الأميركي بعمق 32 كيلومتراً وبطول 460 كيلومتراً على الحدود التركية السورية، ستضم مدناً وبلدات من 3 محافظات سورية، هي حلب والرقة والحسكة.
وقالت وكالة "الأناضول" التركية: "إن أبرز المناطق المشمولة في المنطقة الآمنة، هي المناطق الواقعة شمالي الخط الواصل بين قريتي صرّين (محافظة حلب)، وعين عيسى وتل أبيض (محافظة الرقة)".
كما تضم المنطقة الآمنة مدينة القامشلي، وبلدات رأس العين، وتل تمر، والدرباسية، وعامودا، ووردية، وتل حميس، والقحطانية، واليعربية، والمالكية (محافظة الحسكة)، وكذلك ستضم المنطقة كلاً من عين العرب (محافظة حلب)، وتل أبيض (الرقة).
وأكّد أردوغان، الثلاثاء الماضي، إنّ تركيا سوف تنشئ على طول حدودها مع سورية، منطقة آمنة بعمق 20 ميلاً (32 كيلومتراً).
المنطقة الآمنة وإمكانية استثمارها
تشترك فصائل المعارضة مع الجانب التركي في تحقيق أهداف المنطقة الآمنة على مسافة تمتد إلى 500 كيلومترًا تقريبا على طول الحدود، وعمق حوالي 35 كيلومترًا لتكون أساسًا لمنطقة آمنة خالية من ثالوث الإرهاب المتمثل بـ" نظام الأسد وحزب ب ي د الكردي والميليشيات الإيرانية", ويمكن الانطلاق منها مستقبلا في عدة اتجاهات ووفق عدة سيناريوهات، وصولا لتحقيق الأهداف المرجوة من هذه العملية, كـ(منع حدوث موجة نزوح جديدة، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين بالمنطقة، وتطهير الحدود من المنظمات الإرهابية والمساهمة في زيادة أمن الحدود, وتسليم إدارتها للعرب تحت إشراف وتمويل تركي دولي).
خاتمة
على الرغم من تماثل مواقف النظام و"حزب ب ي د" الكردي، برفض فكرة "المنطقة الآمنة شمال شرقي سوريا. فإنه لا يجوز وفق القانون الدولي اعتراض نظام الأسد على هذه المنطقة التي تأتي تطبيقا تركياً لبنود اتفاق أضنة وملاحقه السرية التي أبرمها حافظ الأسد مع الدولة التركية, وبما أن نظام بشار الأسد وريث لتركة الأسد الأب بصفته الوظيفية فهو ملزم بتنفيذ كامل بنود الاتفاقية.
هكذا تبدو فكرة المنطقة الآمنة ضرورة أمنية، لمواجهة التهديدات التي تخلفها الأنشطة غير المشروعة الممارسة في المجال السوري لمنطقة الحدود, فيما تنتظر أنقرة من واشنطن إثبات ذلك عمليا، إذا ما تجاوزت القيود التي تفرضها المصالح الأنانية والمتعارضة، كونها ترى في الميليشيا الكردية المصنفة إرهابيا, شريكا لها، وذلك ما قد يزيد من حدة الخلاف حول التطبيق العملي للمنطقة الآمنة، وآليات التعامل معها، إقليمياً، ودولياً.