بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
في تطوّر جديد لمشهد الأحداث الدائرة في سوريا، وتحولات سياسية أخرى مساعدة، فرضت إعادة النظر في تشكيل وترتيب وتموضع القوى المتصارعة" تركيا وروسيا والولايات المتحدة"، كما أحدثت الصدمات العنيفة التي تعرضت لها تركيا، أثرًا بالغًا في العلاقات مع واشنطن؛ ما استلزم ترميم التصدعات مع موسكو وجسر فجواتها باتفاق آستانة وما تلاه من تفاهمات في "غصن الزيتون, واتفاق إدلب", فيما عادت واشنطن من جديد لتذكير أنقرة على أنها حليف استراتيجي في مرحلة زمنية معينة مع رسائل غزل جسدتها بإدراج ثلاثة من قادة حزب العمال الكردستاني على لوائح الإرهاب والبدء بعملية التفاهم حول اتفاق منبج, والعمل على ترتيبات أخرى شرقي الفرات.
يلعب الشمال السوري المشاطر لتركيا دوراً حيوياً في تمكين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالاستمرار في تهديد الأمن القومي التركي, مما دفع أنقرة ومعها الجيش السوري الحر إلى التحرك ومحاولة انتزاعه والسيطرة عليه تدريجيا عبر صفقات مع "واشنطن" و"موسكو" في السيطرة على "جرابلس والباب وأعزاز" فيما عرف بعملية "درع الفرات", وأخرى مع موسكو في عفرين بعملية "غصن الزيتون". وبما أن الاستراتيجية الروسية تقوم على مبدأ المنتصر هو من يقدّم خيار القوة على خيار السلام، اضطرت موسكو نتيجة المواقف الدولية الرافضة للعمل العسكري في إدلب للقبول بصيغة توافقية مع شريكها التركي في اللقاء الذي جمع الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في سوتشي يوم 17 سبتمبر/ أيلول الجاري، والخروج بنتائج تهدف إلى شراكة أنقرة وموسكو في ملف إدلب.
تناقش هذه الورقة التقارب السياسي بين تركيا والولايات المتحدة, والتنافر المستجد بين أنقرة وموسكو في سياق أهداف معلنة وتقاطعات سياسية في منطقة الشمال السوري.
وتستعرض الورقة في إطار هذه المناقشة بعض الملامح التاريخية والديموغرافية لعلاقة تركيا مع الروس والأميركان، وتوضح الأهمية التي تمثلها أنقرة بالنسبة لهما في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، كما تحلل استراتيجيات التفاهمات بكل تناقضاتها.
كما تنظر الورقة، بملمح استشرافي سريع، في مصير العلاقات الروسية - التركية في ظل التجاذبات الراهنة، وهو-دون شك- مصير لا ينفصل عمَّا ينتظر الشمال السوري برمته.
"روسيا-تركيا" تاريخ دموي وحاضر متقلب
لم تستطع العلاقات الروسية التركية، الخروج من عقد التاريخ بما تحمله من أحقاد ثأرية دارت بينهما على مدى خمسة قرون تغذيها الجغرافية المتحركة والاختلاف الديني بين امبراطورتين, روسيا باعتبارها وريثة الكنيسة البيزنطية الأرثوذكسية, فيما السلطنة العثمانية ممثلة العالم الإسلامي" السني" التي أسقطت القسطنطينية عاصمة الامبراطورية البيزنطية عام 1453م, وبعدما تحولت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر إلى "رجل مريض" تناهشتها القوى الدولية, وبالأخص روسيا التي أسهمت بتقليص نفوذها في منطقة القوقاز وفي البلقان, ولولا "توازن القوى" بين الدول الأوربية لأجهزت عليها ولكنها اكتفت بدعم تمرد دول البلقان بدواعي الروابط العرقية السلافية والدينية الأرثوذكسية إلى أن انهارت السلطنة العثمانية وقامت الجمهورية التركية في عهد مصطفى كمال أتاتورك, كما انتهى حكم القياصرة في روسيا 1917م وحل مكانه "الاتحاد السوفياتي". ورغم حالة الهدوء بين الدولتين في مرحلة ما بين الحربين العالميتين, فإن خروج روسيا السوفياتية من الحرب العالمية الثانية منتصرة أدت إلى إلغائها معاهدة الصداقة والحياد مع تركيا التي أبرمتها معها عام 1925م وطالبتها بإعادة إقليمي قارص وأردهان, والحصول على قواعد عسكرية في منطقة المضائق "البوسفور والدندريل" وتعديل معاهدة مونترو لتنظيم المرور عبر المضائق, ولكن دخول تركيا عضوا في حلف الأطلسي "ناتو" عام 1952م, جعل منها رأس حربة ضد الاتحاد السوفياتي, وساءت العلاقات بين الدولتين إثر تفكك الاتحاد السوفياتي وقيام "الاتحاد الروسي" (1991-2002) نتيجة القضية الشيشانية والمجازر الروسية التي ارتكبتها في غروزني, وإعلان مجلس الدوما الروسي منح عبدالله أوجلان الزعيم الانفصالي الكردي حق اللجوء السياسي في روسيا, بالإضافة إلى قضية تزويد قبرص اليونانية بصواريخ (سام- 300).
عادت العلاقات إلى الهدوء بعد إلقاء تركيا القبض على أوجلان وتراجع روسيا عن دعم الأكراد, وحل قضية نشر الصواريخ الروسية في قبرص اليونانية وانتهاء الحرب الشيشانية, فنشطت التجارة البينية, وبالأخص بعد توقيع اتفاق مد خط الغاز الروسي عبر قاع البحر الأسود بين روسيا وتركيا.
علاقات متبدلة
ظلت العلاقات تتأرجح بين التباعد والتقارب إلى أن قامت الثورة السورية عام 2011م, فكان موقف تركيا واضحا وصريحا في دعوة الأسد للتخلي عن الحكم ودعم المعارضة السورية سياسيا وعسكريا, فيما تمسكت روسيا بنظام الأسد حاكما على سوريا, وغدا التراشق السياسي الإعلامي بين الروس والأتراك عنوانا لفصل جديد من العلاقات بينهما, فقد انتقد أردوغان روسيا، بقوله: "إن موقف روسيا تجاه الأزمة في سوريا يسمح باستمرار القتل هناك بلا هوادة"، وأضاف " إن المصدر الرئيس لخيبة الأمل بالنسبة للأزمة السورية هو روسيا فبدلا من أن تنتقد الأسد, تساند المذبحة". وبلغت الأزمة بينهما حدّا كبيرا من التوتر في العلاقات إثر حادثة إسقاط الطائرة الروسية "سوخوي-24 " التي اخترقت الأجواء التركية عام 2015م.
سارعت تركيا بعد لملمة جراحها وخروجها من محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016م الذي عصف بها إلى التدخل العسكري في الشمال السوري، ونتيجة تحالفاتها السياسية الجديدة، غلبت مصالحها الخاصة على مصلحة السوريين، بعد توتر علاقتها مع واشنطن لتنتقل إلى روسيا التي تحتاجها هي الأخرى.
وتجسدت استراتيجيتها الجديدة في حلف آستانا الذي ضم إلى جانب روسيا، إيران، للعمل على إقامة مناطق خفض التصعيد، بهدف تقاسم مناطق النفوذ التي استفردت بها موسكو وطهران إلى أن توصلتا مؤخرا إلى اتفاق سوتشي الخاص بإدلب.
إلى ذلك، اعترض الأتراك على جملة من ممارسات الروس التي يعدونها شكلًا من أشكال التصعيد أو بابًا للخلاف معهم، ويتصدر هذه الممارسات الحملة الهمجية على مناطق خفض التصعيد, وكذلك الاعتراض على تفسير بنود اتفاق إدلب الجاري وبالأخص بعد عودة الدبلوماسية الأميركية للساحة السورية من جديد لترميم علاقتها مع تركيا وفق تفاهمات في منبج ومنطقة شرقي الفرات.
اتفاق الضرورة يتداعى
بعد نجاح روسيا في استراتيجية "الاحتواء الناعم" وقضم المناطق المحررة تباعا وفق اتفاق آستانا، تغيرت اللهجة الروسية فيما يتعلق باتفاق إدلب ما يشير إلى اعتماد موسكو استراتيجية "الاحتواء الخشن"، وهي خوض حروبٍ محدودة في المنطقة العازلة, حيث ستسعى إلى توسيع دائرة الصراع تدريجيا، وتنويع أدوات المواجهة، وزعزعة الأمن والاستقرار في مناطق نفوذ تركيا وسيطرتها, وبعد أن أشاد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف التزام تركيا بتنفيذ فصائل المعارضة تطبيق اتفاق ادلب في تصريحه القائل: "بالاستناد إلى المعلومات التي نحصل عليها من عسكريينا، يتم تطبيق الاتفاق، وجيشنا راض عن الطريقة التي يعمل بها الجانب التركي"، فإن الروس غيروا لهجتهم, حيث أشارت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، يوم الخميس الماضي، إلى أن "عملية فصل المتشددين عن فصائل المعارضة المعتدلة في المنطقة منزوعة السلاح في منطقة إدلب السورية لم تتحقق بعد"، معتبرة أن العملية التي بدأت في إطار اتفاق بين الدولتين في17 أيلول (سبتمبر) لم تنجح رغم الجهود التي بذلتها أنقرة.
وفي الإطار ذاته انتقد المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف أنقرة، معلقاً على تطبيق الاتفاق قائلاً: "العسكريون الأتراك لم ينجحوا بعد في تنفيذ جميع التزاماتهم بموجب اتفاق المنطقة منزوعة السلاح في محافظة إدلب وفق الاتفاق الروسي التركي". كما أنّ حلفاء هذه الاستراتيجية "نظام الأسد وإيران" بحسب ما كشفت عنه الأحداث الماضية، ليست لديهم نية في التراجع عنها، خصوصاً الإيرانيين الذين يعتبرون الحرب الدائرة حرب معتقد ووجود، وقد عبّر قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري، يوم الخميس عن نية طهران "إرسال قوات حفظ سلام إلى إدلب ومنطقة شمال غرب حلب بناء على طلب من الحكومة السورية". وأضاف أنه "بناء على مفاوضات السلام الجارية بشأن سوريا، فقد طلبت دمشق من إيران إرسال قوات حفظ سلام إلى المنطقتين المذكورتين".
خمس مسائل أساسية
مع هذا كلّه ولأجله، يركّز الروس على خمس مسائل أساسية، يرون فيها عوامل دعم لنجاح توجههم الاستراتيجي، وتحوّلهم الجديد المتمثل بالانقلاب على اتفاق إدلب، هي:
أولا: التصعيد العسكري المتواصل ضد المنطقة العازلة من خلال دفع ميليشيات إيران والأسد لقصف المنطقة العازلة بكافة أصناف الأسلحة لإضعاف موقف أنقرة.
ثانياً: إحكام السيطرة على المنطقة العازلة، وإخضاعها إخضاعا كاملا، بوصفها مركزاً للحراك الثوري والتحشيد الشعبي الداعم للانتفاضة والثورة السورية ضد نظام الأسد.
ثالثاً: تواجد روسيا إلى جانب تركيا للمراقبة والإشراف على الطرق الدولية أي طريق حلب ـ اللاذقية وحلب ـ دمشق على التوالي.
رابعاً: تعطيل روسيا التوافق مع تركيا حول أسماء "اللجنة الدستورية" لانفراد روسيا بالحل السياسي وفق ما تقتضيه مصالحها.
خامساً: التنسيق مع خلايا أمنية في المنطقة المحررة، تعمل رأس حربة في مواجهة ما يتعارض مع استراتيجية موسكو وتوجهات نظام الأسد.
انصراف تركيا عن روسيا
انتعشت العلاقات الأميركية مع تركيا، بعد تباعد في الرؤى بينهما من خلال عدة قضايا محورية كان آخرها؛ قضية القس الأميركي الذي شكل الإفراج عنه انفراجا في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، سعيا من إدارة الرئيس ترامب العودة بتركيا إلى محورها التقليدي، وذلك عبر دعم واشنطن لموقف أنقرة في سوتشي إثر تغريدة الرئيس ترامب التي قال فيها: "إن أي هجوم في إدلب سيكون تصعيداً طائشاً للصراع، وهذا مهم جداً، لأن رأينا هو أن الوقت قد حان لوقف القتال، لقد كان هناك -ولا يزال- نحو ثلاثة ملايين شخص في إدلب، نصفهم تقريبا من النازحين من مناطق أخرى من سوريا، وهناك أيضا ما يقرب من 50 إلى 70 ألف مقاتل، معظمهم جزء من المعارضة التي كنا نعمل معها والتي لا يزال الأتراك يتعاملون معها", وفي كل اتصال بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والأميركي دونالد ترامب، يتناولان فيه تطورات الملف السوري، ويؤكد ترامب على أهمية اتفاق إدلب.
وفي هذا السياق, قال المبعوث الأميركي إلى سوريا جيفري: "إن اتفاق سوتشي خطوة مهمّة جدا، لأن ما حدث هو أن الصراع قد تجمّد ليس في تلك المناطق فحسب، بل إن الصراع تجمد بشكل أساسي في كل المناطق الأخرى".
ومما زاد التقارب بين الحليفين التقليديين "الولايات المتحدة وتركيا" تسوية ملف منبج السورية وذلك بالتأكيد على انسحاب "الوحدات الكردية" والتنسيق بين الجانبين في حفظ الأمن والاستقرار وتسيير الدوريات المشتركة بينهما إلى حين تشكيل إدارة محلية في المدينة. وكذلك توصلهما إلى تفاهمات حول منطقة شرق الفرات, علاوة على رسالة الغزل الأميركية لتركيا بشأن رصد واشنطن مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات عن 3 قياديين من حزب العمال الكردستاني "ب ك ك"، هم مراد قره يلان (5 ملايين دولار)، وجميل بايق (4 ملايين دولار)، ودوران كالكان (3 ملايين دولار). وجاء قرار الخارجية الأمريكية هذا في أعقاب زيارة مساعد نائب وزير الخارجية الأميركية والمسؤول عن الشؤون الأوروبية والأوراسية ماثيو بالمر إلى أنقرة، استكمالا لانتعاش العلاقات بين البلدين عقب إطلاق أنقرة سراح القس الأمريكي برونسون وانطلاق الدوريات التركية الأمريكية المشتركة في منبج بريف حلب.
خاتمة
يشار إلى أن استراتيجية روسيا تعتمد القضم المرحلي للمنطقة العازلة عبر شرعنتها بخرائط رسمتها في سوتشي, وتواجه أنقرة تارة بإثبات حسن نية, كالهدن وخفض التصعيد, وتارة أخرى بذرائع وجود فصائل راديكالية لم تلتزم بتنفيذ الاتفاق, ولكنها فيما يبدو تعمل على قيادة العمليات العسكرية لتنفيذ إحكام السيطرة على تلك المنطقة المرسومة إيذانا لتمزيقها في حال توافرت الظروف الدولية والإقليمية التي تتيح لها احتلال المنطقة.
وفي إطار التطورات التي تعصف بالاتفاق، ثمة من يرى أنه قد دفعت خارطة النفوذ الروسية المنتفخة واشنطن إلى صحوة جديدة عبرت عنها بنشاطها الدبلوماسي المتعاظم، وما يحمله من أطر سياسية واضحة ومفاجئة ومناقضة لرؤية موسكو التي تعمل على استثمار إنجازاتها في سوريا منفردة عن بقية العالم.
من هنا, تنطوي الرؤية الأميركية الجديدة للقضية السورية على عدة عناصر يقف على رأسها ترميم علاقاتها مع تركيا, واستمرار وجودها العسكري في سوريا, وتوصيف طبيعة الصراع السوري القائم بين شعب ثائر ونظام مستبد, وآلية حله وفق قرار مجلس الأمن الدولي 2254, وإجراء انتخابات حرة نزيهة بإشراف الأمم المتحدة يشارك فيها كل السوريين في الداخل وبلدان اللجوء, وعودة النازحين والمهجرين, وتفعيل المساعدات الإنسانية.
وبذلك؛ فإن تركيا بحسب سياقات التوجهات الروسية الجديدة الخاسر الأكبر بعد المعارضة في حال تغلغل الروس ونظام الأسد في المنطقة العازلة تحت ذرائع مختلفة، ومن يخسر هذه المنطقة سيتنازل عن باقي المناطق التي اعتبرتها أنقرة عمقا لأمنها القومي, وهو بالتأكيد مالا تسمح به تركيا مما سيدخل طرفا اتفاق سوتشي في صراع محموم لا يمكن التكهن بمآلاته.