بلدي نيوز - راني جابر (المحلل العسكري لموقع بلدي نيوز)
العملية الجوية الروسية في سوريا قد تكون المرة الأولى في تاريخ روسيا التي تشن فيها ضربات جوية بهذا الشكل، فالعقيدة العسكرية الروسية وقبلها السوفييتية وضعت القوات الجوية كدعم للقوات البرية التي تعتبر عماد القوة العسكرية، ولم يسبق خلال التاريخ أن شن الاتحاد السوفيتي أو روسيا ضربات جوية بهذا الشكل، ولهذه المدة.
فالمراقب للانتشار الروسي في سوريا، يدرك بوضوح أن التدخل الروسي مبني على عدة أسس وقواعد، يبدو أنها تعبر عن سلوك حذر مبني على خلاصة تجارب سابقة، وبخاصة التجربة السوفيتية في أفغانستان والتجربة الأمريكية في العراق وأفغانستان، وأخيراً التجربة الروسية في أوكرانيا.
فعلى الرغم من محاولة روسيا تطوير تكتيكاتها في مجال استخدام الطائرات المسيرة الحديثة التي أدخلتها الخدمة، وعدة أنواع من الأسلحة وبخاصة الصواريخ الطوافة، التي تستخدمها روسيا للمرة الأولى في تاريخها، إضافة لقاذفاتها الاستراتيجية التي تنفذ طلعاتها مروراً بنصف الكرة الأرضية.
لكنها تطبق معظم التكتيكات المعتادة لاستخدام قوتها الجوية في سوريا، من قصف كثيف وغارات متعددة على نفس الهدف بعدة طائرات وعمليات تدمير "الإمدادات" جوياً وغيرها الكثير من نفس الأمور التي كانت تستخدمها خلال حروبها السابقة.
لكن المميز في العملية الروسية في سوريا هو "الغياب الظاهري" لوجود قوات برية على الأرض، على الرغم من الكثير من التسريبات التي تحدثت عن مشاركة روسية في عدد من المعارك، وبخاصة جنوبي حلب وجبلي التركمان والأكراد.
دروس مؤلمة
روسيا التي ورثت ندوب الاتحاد السوفييتي قبل ترسانته النووية، لا تزال تتحسس ندوبها الغائرة بعمق، فتكرار المغامرة الأفغانية قد يفتح على "روسيا بوتين" أبواب الجحيم، فالاتحاد السوفييتي دخل أفغانستان ولم يخرج منها سوى على حافة التفكك.
قد يكون تفكك الاتحاد السوفيتي نتيجة طبيعية لطبيعة نظامه واقتصاده وكل ما فيه، لكن "المجاهدين" في أفغانستان سرعوا وصوله لنقطة الانهيار.
ما تدركه روسيا جيداً وتحاول تجنبه هو أن أشباح قفار أفغانستان ستعود للظهور مرة أخرى في قفار وصحارى لا تشبه ما واجهه الجنود الروس خلال حربهم هناك، وقد تكون رحلة روسيا في أفغانستان مجرد "نزهة" مقارنة بتدخل بري كامل في سوريا.
جنود رخيصون
ما لا يعرفه الكثيرون أن الاتحاد السوفيتي عندما دخل أفغانستان لم يعتمد على قواته فقط، بل كان هناك كم كبير من القوات الأفغانية التي عملت مع القوات السوفيتية خلال فترة احتلالها.
وتحملت تلك القوات الأفغانية القسم الأكبر من الخسائر البشرية فعلياً، والتي استخدمها الروس كجنود رخيصين للخطوط الأولى في المعارك.
لكن على الرغم من وجود هذه القوات، لم تتوقف الخسائر السوفيتية واستمرت الأرتال الروسية بالذوبان والتبخر في شعاب جبال أفغانستان.
فيبدو أن الروس يركزون خلال عمليتهم في سوريا على القوات الغير روسية من ميليشيات طائفية وقوات النظام، والتي لا يهتم الروس لخسائرهم البشرية بتاتاً، ما يخفض تحمسهم للزج بقوات برية كبيرة يعرفون تماماً أنها ستمنى بخسائر فادحة خصوصاً على المدى الطويل.
دروس الماضي
حتى الآن لم يثبت وجود قوات روسية كبيرة على الأرض في خطوط المواجهة الأولى، على الرغم من وجود الكثير من التسريبات عن وجود قوات روسية تؤمن التغطية النارية لقوات النظام والميليشيات الشيعية، ووجود عدد من التسريبات والصور عن عربات روسية تسير في الطرقات تجاه بعض خطوط المعارك.
فقد تعمد الروس والنظام تسريب الكثير من الصور بطريقة غير رسمية، على شكل تسريبات فردية لإعطاء الانطباع عن وجود قوات روسية (ولو بالحد الأدنى) على الأرض.
حيث يتعمد النظام إلباس جنوده ألبسة عسكرية روسية حصل عليها من روسيا، لإعطاء انطباع بوجود جنود روس على الجبهات وتصعيب تمييزهم من قبل الجيش الحر، كما فعل الأمريكان سابقاً في العراق وأفغانستان مع الميليشيات التي حولوها لقوات نظامية ضمن الحكومات التي ركبوها.
فالنظام وروسيا يحاولان خلط الأوراق وإعطاء ايحاء بوجود قوات برية روسية في الكثير من المناطق، لكن الحقائق الميدانية لا تؤكد ذلك بشكل كافي.
فحتى الآن لم يوجد تأكيدات بوجود قوات (بقوام سرية مشاة) أو أكثر في أي خط جبهة ضد الثوار، وحتى الخسائر البشرية الروسية لا تزال ضمن إطار التسريبات، خصوصاً أن أي معركة في سوريا في المناطق المهمة للروس تخلف ورائها العشرات من القتلى من الميليشيات الإيرانية وقوات النظام، لكن لم توثق حتى الآن جثة أي جندي روسي في تلك المناطق، ما يخفض الاحتمالية الحقيقية لنشر قوات في الخطوط الأولى، لكنه لا ينفيها عن القوات في المؤخرة ومراكز القيادة وبطاريات المدفعية والقناصين.
فالقوات الروسية تكتفي بتقديم الدعم الجوي والمدفعي، وليست بحاجة في المدى القريب لتقديم دعم بري مباشر أو إدخال قوات برية إلى الميدان، بسبب وجود قوى برية كبيرة ومتجددة باستمرار، من قوات النظام والميليشيات الطائفية التي تقاتل معه، ولا وجود لمشكلة كبيرة في الخسائر فيها.
فالقوات الروسية المحدودة في سوريا والتي يبدو أن روسيا تسعى لإمدادها بالمرتزقة ذوي الخبرة السابقة في الجيش، وعدم الدخول بشكل مباشر برياً، تظهر كمحاولة على ما يبدو لاستنساخ التجربة الأوكرانية، ولكن بشكل مختلف نسبياً بسبب عدم وجود دعم جوي كثيف في أوكرانيا، بل تركز على الدعم الناري المدفعي والصاروخي للقوات الانفصالية الموالية لروسيا.
عدم الوقوع في الفخ "مرة ثانية "
السياسية الأمريكية تسعى لإضعاف الجميع على الأرض السورية، بدون الدخول معهم في أي صراع مباشر، حيث لن تمنع أمريكا تزويد الثوار بالحد الأدنى من السلاح، الذي يستطيع التسبب بخسائر مؤلمة للنظام أو حتى للروس، لكنه لن يكون كافياً لهزيمتهم، وهذا ما يتذكره الروس جيداً ويدل على حذرهم الشديد غير المعتاد عليه.
فحتى عندما نشروا أفضل ما لديهم من دبابات جنوب حلب، لم يشغلوا عليها أطقماً روسية بل سلموها للنظام، لتعزى أي خسائر فيها للنظام وليس لهم، بحكم معرفتهم بوجود مضادات دبابات فعالة تشكل خطراً على هذه الدبابات.
فقد يكون الوضع مشابهاً لتسليم "المجاهدين" الأفغان صواريخ ستنغر، فهذه المرة يبدو أن صواريخ تاو هي سيدة المشهد، وهذا ما يتوقعه الروس أو يخشونه، ما يخفف حماسهم للزج بقوات برية إلى "مصيدة".
لماذا لن ينشر الروس قوات برية كبيرة في سوريا "قريباً"
كما أسلفنا، روسيا تحاول تجنب مآسيها في حروب خاضتها ضد نفس العدو، وهي تعلم أن تدخلها البري سيعتبر بمثابة جاذب أكبر للمتطوعين للقتال ضدها، إضافة للتكلفة البشرية الكبيرة، التي ستتسبب بها طبيعة التقنيات العسكرية الروسية التي لاتزال تستخدم نفس أنواع العربات والأسلحة السوفيتية التي استخدمتها في حرب أفغانستان، والتي تعتبر مشابهة كثير لما لدى النظام وأثبتت فشلها خلال سنوات القتال الخمس.
فتكلفة الحملة الجوية الروسية بشكلها الحالي أقل من تكلفة إرسال 40 إلى 50 ألف جندي على أقل تقدير، والذين ستحتاج روسيا معهم لمئات الدبابات والعربات المدرعة وعشرات الطائرات، ما يعني دفع التكلفة المادية مضاعفة، في حين تدفع الآن إيران لميليشياتها والأسد لجنوده كل التكاليف.
إضافة للوضع الداخلي الروسي الذي يتحول من سيء لأسوأ مع الوقت ويتجه للانفجار تدريجياً، فالاقتصاد الروسي يرزح تحت ضغوط كبيرة، سيزيدها كثيراً إرسال قوات كبيرة إلى سوريا، والعقوبات الروسية على تركية التي أضرت بالروس أولاً.
نصر نظيف
يبدو أن جورج بوش الابن ليس الوحيد الذي حلم بالنصر بدون خسائر، فروسيا تسعى لتحقيق ما اعتقد بوش أنه حققه عندما أعلن عن نصره في العراق و"تنفيذ المهمة".
فروسيا تريد الظهور بمظهر المنتصر في حرب "نظيفة"، بدون خسائر بشرية كما حدث في أفغانستان والشيشان، فبوتين يدرك مغبة حصول خسائر برية كبيرة على عرشه الذي على الرغم من تماسكه الظاهري لكنه مؤهل للاهتزاز والتصدع.
فرماد غروزني ومحج قلعة مازال يخفي الكثير من الجمر الذي ينتظر من ينفخ فيه.