Foreign Policy – ترجمة بلدي نيوز
أكثر من أربع سنوات من قصفٍ لا هوادة فيه، وإطلاق نار لم يتوقف، كل ذلك جعل "حمص" مدينة يصعب تمييزها الآن من كثرة الدمار، وهي التي كانت يوماً ما عاصمة رمزية للثورة السورية.
مباني حمص مدمرة تماماً، سقوف منهارة وكأنها قلاع رملية، وقضبان معدنية ملتوية وأطر نوافذ تئن تحت وطأة الريح، البشر الوحيدون الموجودون هناك هم الحراس العسكريين، وقد تم حفر خنادق عميقة في الطرق لكشف أنفاق الثوار.
في كل مكان بحمص ترى أحشاء المنازل والمباني ظاهرة للعيان، وممتلكات خاصة وأشياء وذكريات تضمحل ببطء مع الركام، وتتنشر الأعشاب حتى عشرة أقدام بين المواد الصلبة.
بالنسبة للحكومة السورية، فإن الحرب في مدينة حمص قد انتهت، وتمت هزيمة الثوار قبل أكثر من عام في البلدة القديمة وفي المعاقل الأخيرة للثورة في منطقة "الوعر"، فقبل بضعة أسابيع من عيد الميلاد، انسحب آلاف المقاتلين من المنطقة في ظل ما أشادت به الحكومة السورية والأمم المتحدة على أنه اتفاق لوقف إطلاق النار ولإحلال السلام في واحدة من أكثر المدن رمزية لـ "الحرب السورية".
المسؤول عن العملية هو "طلال البرازي" محافظ حمص "السني" والداعم القوي للأسد، فقد قام بدور فعال في وقف إطلاق النار في مدينة حمص القديمة والوعر، ولكن لم يستطع أي من سكان المنطقة أو ثوارها "السنة" العودة لملء ساحاتها، وأحياناً كان يبدو البرازي وكأنه يترأس مقبرة، أو منطقة خراب ملحمية لتنضم إلى قافلة هيروشيما، دريسدن، وستالينغراد في المعجم التاريخي لحصار ودمار المدن.
وبحلول نهاية الحصار الذي دام لمدة عامين على البلدة القديمة، كان جميع السكان البالغ عددهم 200.000 ألف قد فروا من المدينة، ودمر أكثر من 70% من مباني المنطقة على يد نظام الأسد، اليوم، ووفقاً للحكومة السورية، ثلث من غادروا المدينة قد عادوا إلى منطقة حمص - ولكن إلى أين ووسط المدينة مدمر بالكامل وغير صالح للسكن الى حد كبير.
يقول برازي أن تكلفة إعادة بناء المدينة سيكون هائلاً من دون مساعدات من روسيا وإيران والصين، والجهات المانحة الدولية الأخرى، وأضاف: "إن إعادة الإعمار الشاملة ستكون مستحيلة، ويقدر الخبراء أن التكلفة تزيد عن 200 مليار دولار لإعادة بناء المباني في جميع أنحاء البلاد، أي ما يعادل 3 اضعاف الناتج المحلي الإجمالي لسورية ما قبل الحرب.
وعلى الرغم من كل ذلك، تأمل الحكومة السورية من تحويل هذه المدينة المدمرة إلى رمز لعودة سلطتها، ويعمل المسؤولون السوريون في معرض إعادة إعمار حمص على نشر رسالة واضحة: بأن الحكومة تنوي استعادة السيطرة الكاملة على البلاد، فإن كان بإمكانهم ترويض حمص "المدينة السنية"، حيث الغالبية من شعبها احتضن الثورة بحماس، فإنها يمكن أن تفعل ذلك في أي مكان.
هناك رسالة أكثر تهديد من مستوطنة حمص، فالأحياء التي احتضنت الثورة ثم دمرت تماماً وهجر ساكنها، لن تسمح الحكومة السورية بعودتهم مجدداً إلى ديارهم، فهذه موجة ثانية من عقاب النظام.
هذا هو نموذج حمص من وجهة نظر النظام: تطويق ومحاصرة المناطق التي يسيطر عليها الثوار، بحيث ترتفع أسعار المواد الغذائية لحد يدفع المقاتلين الباقيين على قيد الحياة للاستلام، ولذلك فالتدمير الذي يلحق بالمدينة هو بمثابة تذكير وردع للآخرين، ويقول أنصار الحكومة أن الخوف من تكرار سيناريو حمص المدمرة حمص، هو أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت الثوار الموجودون حول دمشق، مثل جيش زهران علوش، يستخدمون القصف العشوائي على دمشق إلى أدنى حد ممكن.
أما الثوار فالدرس الذي أخذوه مختلف تماماً: أن الأسد سوف يعمل ما باستطاعته ليبيد أي معارضة، إلا إذا قاتل الثوار بضراوة ولوقت طويل بما يكفي للفوز، وانتزعوا مناطق لهم أو على أقل تقدير، ان يرغموا الحكومة السورية على تأمين ممر آمن لهم إلى منطقة ثوار أخرى، إذا القوة فقط هي ما ستمكنهم من انتزاع تنازلات من الدولة.
وفي زيارة أخيرة إلى حمص، تشهد الانقسامات العميقة في المدينة، وشبه الاستحالة لاستعادة ما كان قائماً هناك من قبل: أغلبية سنية، ولكن مختلطة بشكل ملحوظ، ومجتمع أكثر تحفظاً من باقي المحافظات ومن العاصمة دمشق، ولكن مع ذلك كانت تتعايش بنجاح على الرغم من الخلافات الطائفية العميقة.
وعندما وقفت في منتصف الميدان الرئيسي لشارع الخالدية، في وسط حمص القديمة، كنت أستطيع التعرف على المشهد المألوف للمدينة، واجهات المحلات، المباني السكنية المكونة من خمسة طوابق، الطرق التي تؤدي إلى ست اتجاهات.
كنت قد رأيت هذا المكان من قبل في لقطات الفيديو، عندما شاهدنا الاحتجاجات الشعبية والاشتباكات في وقت لاحق، والتي رد عليها النظام السوري بوابل من القصف حتى يستطيع قمع الثورة، وما تبقى اليوم هو مدينة طمست ملامحها حتى أصبحت جديرة لأن تكون من أفلام الخيال العلمي بركامها وغبارها، لو لم تكن حقيقية.
الصوت الوحيد في حمص، الصوت الموجود في كل مكان، هو صفير الرياح، وبصوت عال كما في الصحراء ولكنه صوت قادم من قلب مدينة حضرية قديمة.
ونحن على استعداد لترك الساحة، قال المسؤول الحكومي الذي كان معنا بعد أن سكت طويلاً وهو يشاهد معالم المدينة التي اختفت: "لا يمكن إعادة بناء هذا".
فلقد كان الخراب في كل مكان وفي كل اتجاه، يقل فقط لأعلى التل نحو منطقة الحميدية، وهي حي مختلط يحوي بضع عشرات من الأسر، بعض السنة، وبعض المسيحيين الذين عادوا.
عبد اللطيف توفيق العطار، 64 عاما، هو واحد من عدد قليل من السنة الذين عادوا إلى البلدة القديمة، والمنطقة التاريخية بالقرب من مركز مدينة حمص. ربما كان موثوق به من قبل الحكومة بسبب انتقاده الصريح للثوار حين قال: "لقد جاءوا ودمروا كل شيء".
يقول العطار: " في بعض الأحيان تشعر بالوحدة هنا، ورغم أن أبنه قد دعاه للعيش معه في المملكة العربية السعودية، لكنه أجاب "أنا احب بلدي، ولا أريد أن أعيش في أي مكان آخر".
وبهدوء بدأ البكاء "لقد فقدنا الكثير في سورية، وخاصة في حمص، لم نعتد رؤية النساء تتسول عند المساجد".
بعد لحظة قال: "سوف تعود حمص، سوف تعود حمص".
* * *
كما وأعرب الموالون للحكومة من سكان حمص عن حنينهم للتعايش الذي كان سائداً من قبل في المدينة، ولكن حكومة الأسد لم تعط خيارات تذكر للثوار سوى الاستلام- ولم يتم ذكر أي حقوق أخرى بالنسبة لغالبية سكان حمص الذين هجروا، ولكن محافظ المدينة أصر على أن المدينة ستعود للحياة وأن سكانها "السنة" الذين كانوا متعاطفين مع الثورة سيعودون أيضاً.
يقول برازي: "بين عيد الميلاد ورأس السنة الجديدة، سترى حمص جديدة"، كما أشار البرازي، في مقابلة على هامش مؤتمر في دمشق حول كيفية إعادة تشغيل الاقتصاد السوري بأنه: "بمجرد فتح المتاجر ستعود الحياة للمدينة".
وقال أن انفجار سيارة ملغومة في بعض الأحيان أو قذيفة لا يهدد الأمن في المدينة بشكل عام. وأضاف: "إنها أكثر أماناً من دمشق".
استراتيجيته تبدأ مع مشاريع سريعة في الأجزاء الأكثر تضرراً من حمص القديمة: إعادة بناء المدارس والأماكن التاريخية والدينية مثل كنيسة نوتردام ومسجد خالد بن الوليد والسوق القديم، وقال أنه يعول على روسيا والصين وإيران لدفع الفاتورة لمشروع سيكون مكلفاً جداً.
كما أن عدة مدارس للأبرشيات المسيحية قد أعيدت في خريف هذا العام في منطقة الحميدية من حمص القديمة، وجاء حوالي 200 طالب في اليوم الأول من المدرسة، مقارنة مع 4000 طالب قبل الحرب، وفقا للأب أنطونيوس.
ولكن تبقى عقبات كثيرة أمام نظام الأسد لإحياء المدينة المدمرة فهو يتجاهل مشاعر الكثيرين من سكانها المؤيدون للثورة والرافضين لحكم الأسد.
حمص سوف تكون نموذجاً ولكن ليس كما يرغب المسؤولين في الحكومة السورية – فهي ستبقى رمزاً دائم لحرب تطهير عرقية أو حرب حصار، لشعب حرم من حقوقه ومنع من العودة لدياره لأن الحكومة تخشى عودة الثورة.
"الناس ما زالوا يدعمون الثورة"، يقول أحد السكان المتقاعدين، الذين لم يتركوا حمص طوال فترة الحرب. وتحدث بشرط عدم الكشف عن هويته خوفاً من انتقام الحكومة من أفراد أسرته.
وأضاف: "حمص أثبتت عدم جدوى توقع أي إصلاح من الحكومة، وأعرب عن أسفه كيف رد النظام على الاحتجاجات السلمية باستخدام القوة المميتة والاعتقالات العشوائية والتعذيب".
لمدة ستة شهور من الحصار، قام الثوار بتهريب المواد الغذائية واللحوم للمدنيين، وكنا نهلل للجيش الحر في حمص وعلى جبهات القتال في جميع أنحاء البلاد، اليوم، بعد أن عادت الحكومة للسيطرة على المدينة، نشعر بالاكتئاب كونها أول مدينة سورية تحررت، أشعر بأني سأنفجر، كل الذين قتلوا من اجل ماذا، لينتهي كل شيء ويبقى الأسد رئيساً للبلاد، أفضل الموت على ذلك.