بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مقدمة:
تشهد الحرب الدائرة في سورية؛ تقهقر تنظيم "الدولة" في (وادي الفرات)، أمام تقدم الميليشيات الإيرانية وقوات النظام المدعومة من روسيا، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تساندها طائرات التحالف الدولي، لتتسع دائرة السيطرة للميليشيات والقوات، وتضيق الأرض بالتنظيم، بعد تنوع قواعد ووسائل الاشتباك، ثم لا يلبث تنظيم "الدولة" أن يعيد ترتيب صفوفه، استعدادا لجولة أخرى، يهدد من خلالها مسرح العمليات العسكرية، مفسدا على أطراف الصراع نشوة "النصر"، رغم تحديد (ديمستورا) المبعوث الدولي إلى سورية؛ موعد انهيار التنظيم نهاية شهر أكتوبر الجاري.
هذا الانهيار المتسارع لتنظيم "الدولة"، وعدم رغبته في المقاومة، يتوافق وخطابه الإعلامي الذي جسده في مقولة "اعلموا أنّ لنا جيوشاً في العراق، وجيشاً في الشام، من الأُسود الجياع، شرابهم الدماء، وأنيسهم الأشلاء، ولم يجدوا فيما شربوا أشهى من دماء الصحوات"، مما يعكس جوهر وحجم ونوع القتل، والممارسات والترويع، الذي قام به عندما بسط سيطرته على مناطق واسعة في سورية، سواء في مواجهة الأهالي، أو فصائل الثورة السورية، وكذلك الأطباء والإعلاميين، والناشطين المناهضين لنظام "الأسد"، بينما اكتفى بالتقهقر والاندحار أمام ميليشيات مختلفة، دون أن يبدي مقاومة تتناسب وشعاراته المعلنة في الدفاع والتمدد.
هذه التطورات العسكرية، الدائرة بين أطراف الصراع، لمحاربة الإرهاب المتمثل بتنظيم "الدولة"؛ تتزامن مع تحولات سياسية، ترسم تشكيل وترتيب وتموضع الميليشيات الإيرانية، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، في سباق محموم للسيطرة على منابع النفط والمرافق الحيوية، بانتظار ما سيحدثه (آستانة 7) من تنفيذ للاستراتيجية الروسية، بالتعاون مع تركيا وإيران، في غالبية المناطق السورية، وما يماثله جنيف من استحقاقات لمحور واشنطن.
ولابد في النتائج من استعراض ما أحدثه انهيار تنظيم "الدولة" من تغيير ديمغرافي، شمل (وادي الفرات) نتيجة نزوح مئات الآلاف عن مدنهم وقراهم، إلى جانب ضحايا الحرب، الذين قضى جلهم بنيران الطائرات الروسية والأميركية في حربهما المشتركة.
بعد أشهر من قيام روسيا والولايات المتحدة وحلفائهما على الأرض، بإعلان الحرب ضد تنظيم "الدولة"، تحت شعار محاربة "الإرهاب"، بدأت آثار الصدمة العسكرية تظهر على بنية التنظيم، بشكل متسارع، إثر انسحابه المتتالي من مدن وقرى (وادي الفرات)، وسقطت فجأة فكرة "الدولة باقية وتتمدد"، نتيجة فشل التنظيم في احتواء الهجمة الشرسة التي تعرضت له مناطق سيطرته فآثر الانسحاب.
في نهج التذكير بغصات ومواجع الثورة، وما أحدثه تنظيم "الدولة" من نتائج كارثية، طالت الجيش السوري الحر، الذي حرر القسم الأكبر من (وادي الفرات)، ظهر خطاب دولي يتماثل مع رؤية نظام "الأسد" الذي ركز على "الإرهاب"، دون أن يفعل شيئا سوى التضحية بمعسكراته المتناثرة، ليتملق الغرب في كيدية سياسية مبتذلة، على أن نظامه ضحية للإرهاب، ولطالما قرع إعلامه طبول الحرب، لاستجداء الروس والأمريكان وإيران للوقوف معه، وتلك الدول تدرك أن ورقة الحرب على الإرهاب مكشوفة، وأن حقيقة وجوهر الصراع أبعد من تنظيم "الدولة"، فقد قدم "الأسد" سورية الدولة على طبق من بلور للروس والأمريكان، ومن يشتهي من دول الإقليم (إيران وتركيا).
ومع دخول الروس معترك الحرب، بات الإرهابيون من وجهة نظر محاليف "الأسد" هم الشعب السوري الثائر، وأذرعه العسكرية، فدمرت الطائرات الروسية مدنا وبلدات وقرى سورية، فوق رؤوس أهلها، تحت مدعى الحرب على "الإرهاب".
الرقة بلا أهلها
يمكن اتخاذ العملية العسكرية الشهيرة بـ(غضب الفرات) التي قادها التحالف الدولي بزعامة "واشنطن" التي تساند قوات سوريا الديمقراطية "قسد" منطلقا لاستعراض التطورات العسكرية بين أطراف الصراع، بوصفها نقطة تحول مهمة، قلصت مساحة نفوذ تنظيم "الدولة" عبر الضفة اليسرى لنهر الفرات، واتسعت معها رقعة الأراضي التي وقعت تحت نفوذ مليشيات "قسد".
مثلت المناطق الواقعة في الخطوط الأمامية لمقاتلي التنظيم، في (مسكنة والطبقة ورقة سمرة) وقرى نهر (البليخ) عمقا تكتيكيا، فارتبط مصير (الرقة) بمجريات المعارك في هذه المناطق الدفاعية عن المدينة "العاصمة"، وعن العمق الاستراتيجي المتمثل بدير الزور، وما بعدها من مدن كـ(الميادين والبو كمال)، وغيرها من مناطق (وادي الفرات) ذات الأهمية الاقتصادية، والثقل السكاني والعسكري، التي اعتمد عليها التنظيم.
وبعد أن تمكن (قوات سوريا الديمقراطية) من السيطرة على طرق الإمداد، والبلدات المتقدمة، تشرذمت الأنساق الخلفية لقوات التنظيم، وازداد وضعها سوءا وضاقت مساحة الأرض تحت أقدام مقاتليه، وباتت مناطق العمق الاستراتيجي مهددة تماما.
أمام تقهقر التنظيم، كثف التحالف الدولي الذي تقوده "واشنطن" من طلعاته الجوية، التي استهدفت مدينة (الرقة) منذ مطلع نيسان/أبريل الماضي، بهدف إحكام السيطرة على طرق إمداد التنظيم وتحركاته، من خلال تأمين الضفة اليمنى من النهر باتجاه (الرقة)، أمام قوات "قسد" البرية المهاجمة، علاوة على تدميره الجسور الرئيسية والفرعية الواصلة بين (الرقة) ومناطق سيطرة التنظيم في غير مكان.
فشل التنظيم ونجاح التحالف
لم تنجح الألغام التي زرعها التنظيم، والكمائن المفاجئة، كإجراء دفاعي أول، لإعاقة تقدم القوات التي يدعمها التحالف باتجاه المدينة، مما دفع بالأخير للضغط على مدينة (الرقة) أن زج بقوات النخبة من "المارينز" البرية، إلى المحور الشمالي الشرقي من المدينة، ومن بين هؤلاء متخصصون في حرب المدن والمهام الخاصة، واتبع التحالف استراتيجية عسكرية، أربكت تشكيلات "الدولة" وأجبرتها على تغيير خططها، مما أخل بتوزيع وتنظيم قواته، فتراجع إلى خطوط خلفية أكثر تحصينا، فيما اقتحمت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة من التحالف المدينة من عدة محاور.
وتقسم محاور اقتحام المعقل الرئيسي للتنظيم إلى: محور (المشلب) من الجهة الشرقية؛ حيث شن التحالف هجمات على تجمعات التنظيم في حي (المشلب) الذي تقطنه عشيرة (العفادلة) وشيوخها من آل (الهويدي)، وتوغلت في عمق الحي، لفصله عن المدينة وتأمين الطرق المؤدية إلى (باب بغداد) والأحياء الطرفية الشرقية من المدينة، بهدف تقريب المسافة من مركز المدينة.
وفي المحور الثاني؛ محور (الفرقة 17) التي تمتاز بتحصين مضاعف، استهدفها التحالف بقنابل شديدة الانفجار، والقنابل "الفوسفورية" بشكل مكثف، لإنهاك نقاط الاستناد التي تعتمد عليها دفاعات تنظيم "الدولة" من خلال اتباع استراتيجية "الأرض المحروقة"، على طول محور تقدم قوات التحالف البرية.
ومع اقتراب القوات التي يقودها التحالف الدولي من أسوار المدينة، راح التنظيم يتراجع إلى الأحياء الداخلية، ليتزايد التدخل البري للقوات الأميركية والبريطانية على الأرض، وتوجهت قوات من المارينز، لدعم "قسد" في الجهتين الشرقية والغربية، ونفذت (قوات خاصة أميركية) عملية إنزال على سطوح الأبنية، في مساكن (ساريكو) شمالي المدينة، هذا الأمر ساهم بالسيطرة على أجزاء من "الفرقة 17" المحصنة، بإسناد من المدفعية البريطانية، الأمر الذي دفع بالتنظيم إلى التراجع أكثر، وباتت الأحياء تتساقط تباعا، إلى أن جرى الاتفاق الشهير والذي أفضى إلى تسليم "عاصمة الخلافة" وخروج آمن لعناصر التنظيم، بحماية طائرات التحالف، بينما يكتنف الغموض مصير المقاتلين الأجانب، الذين رفضت واشنطن خروجهم من المدينة، واشترطت استسلامهم، ولكن هذا لم يحصل، ليبقى السؤال الكبير؛ ما هو مصيرهم في عملية تسليم الرقة؟
تلك المدينة التي سيطرت عليها قوات "سوريا الديمقراطية"، واحتفلت بـ"النصر"، من خلال انتشار رايات (حزب العمال الكردستاني) على أنقاض المدينة التي دفنت الحرب تحتها ما يقارب 1800 مدنيا من أهالي الرقة، وأكثر من 4000 من مليشيات "قسد"، فيما لا يعرف عدد قتلى التنظيم.
السباق إلى منابع النفط
تشهد المعركة الجارية على ضفتي نهر الفرات في دير الزور، تطورات ميدانية بين أطراف الصراع، يجسدها انكماش تنظيم "الدولة"، وتقدم الميليشيات المتعددة الجنسيات والاتجاهات، التي تحتمي بأجنحة طائرات روسية وأميركية، ومعها تتعاظم الحملة العسكرية، بالتركيز على استهداف المدنيين، تجلت في سلسلة مجازر مروعة، خلفتها غارات تحالف الروس والأمريكان، ضد مدن وقرى (وادي الفرات)، تحت يافطة محاربة "الإرهاب"، إذ تتفقان في إدارة المعركة عبر مراكز تنسيق عسكرية، بانتظار استغلال نتائجها لتقاسم النفوذ بينهما، ولا يمكن النظر إلى تدخلهما في المنطقة من باب محاربة تنظيم "الدولة" فحسب، ودعم نظام حكم شرعي ديمقراطي، كما تروجان، بل هو السيطرة على منابع النفط في (وادي الفرات)، والاحتلال المباشر للمنطقة، التي تعتبر امتدادا طبيعيا للعراق، فضلا عن البادية السورية، التي تتمتع بموقع استراتيجي، ما جعل إيران تسيطر على جزء منها، بما يمكنها مع الروس من لعب دور فاعل في سورية، اقتصاديًّا وعسكريًّا، من هنا، كثف الروس دعمهم العسكري المباشر لـ(بشار الأسد)، كما زاد نفوذ إيران بشكل متعاظم، ليميل بذلك ميزان القوى لصالح إيران وروسيا، فاندفعت الولايات المتحدة الى تعزيز علاقاتها مع "قوات سوريا الديمقراطية"، من أجل استخدامهم في الحد من النفوذ الإيراني والروسي في منطقة (وادي الفرات)، لإحكام السيطرة على منابع النفط في الضفة اليسرى من الفرات، التي تسمى محليا (الجزيرة)، فيما تسيطر روسيا مع حلفائها من قوات "الأسد" والإيرانيين على الضفة اليمنى (الشامية).
مع تجلِّي الكثير مما يجري في (وادي الفرات) عسكريا وسياسيا؛ يتضح بما لا يترك مجالا للشك، سعي موسكو وواشنطن إلى تقاسم النفوذ والمكاسب، كل بحسب ما يملك من قوة على الأرض، فروسيا التي تعمل على تعزيز طموحها السياسي والاقتصادي والعسكري، كقوة كبيرة، ذات تطلع دولي، تدخل في سباق مع الولايات المتحدة، التي تعاني أزمة سياسية داخلية خانقة، تتعلق بشرعية رئيسها (ترامب)، وبناء على ذلك؛ فالظاهر يشير إلى تفاهم وتنسيق بينهما، ولكن المستقبل يشي بخلافات عميقة قابلة للانفجار في كل لحظة، أما الاتفاق الأكيد بينهما، هو التفاهم المشترك منذ البداية على أهداف استراتيجية، باتت تتبلور وفق تعزيز نفوذهما المطلق، في منطقة (وادي الفرات)، بما يحقق الاحتلال العسكري المباشر للمنطقة الغنية بثرواتها، والتي تشهد تنافسا شديدا بين إيران و"قوات سوريا الديمقراطية" وتركيا، وتقوية روسيا لمركزها السياسي دوليا، في مواجهة الولايات المتحدة، للضغط عليها، لتسوية قضايا خلافية كبرى، في (أوكرانيا) وشرق أوروبا، والعقوبات الاقتصادية، مما أدى إلى تقسيم منطقة (الفرات) إلى كيانين منفصلين، الأول "الجزيرة" ويمتد من الرقة إلى دير الزور، فـ(البو كمال) تكون السلطة فيها لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" بحماية أميركية، والثاني الشامية التي تضم المنطقة الواقعة على ضفة الفرات اليمنى، تبدأ من ريف الرقة الجنوبي، وحتى مدينة دير الزور، والسلطة فيها لنظام "الأسد" والإيرانيين بحماية روسيا.
وفي الواقع قسمت المنطقة إلى كيانات، وذلك من خلال السيطرة العسكرية الروسية على المنطقة الواقعة بين السخنة ودير الزور، إضافة إلى أحياء المدينة، الواقعة تحت سيطرة قوات "الأسد" وميليشيا "حزب الله" اللبناني، وصولا إلى مدينة (الميادين)، وبالمقابل سيطرت الولايات المتحدة عبر حلفائها "قسد" على كامل ريف دير الزور الشمالي الغربي، وتعمل على استكمال سيطرتها على ريف دير الزور الشرقي، حتى مدينة (البو كمال)، وتحاول وصلها بقاعدة (الزكف) القريبة من (حميمة) على الحدود السورية العراقية، ووقعت السيطرة الفعلية الروسية الأميركية على آبار النفط المحاذية لضفتي النهر في دير الزور، تزامنا مع ايجاد صيغ معينة لامتيازات التنقيب والاستثمار مستقبلا.
وبدا لافتاً أن اللقاءات الثنائية بين موسكو وواشنطن، قد تجسدت على شكل تفاهمات، تقضي بإعادة تشغيل حقول النفط ونقاط التوزيع والنقل، بإشراف فنيّ روسيّ، وحماية أمنية توفرها الولايات المتحدة، على شاكلة اتفاق نفط (رميلان) في محافظة (الحسكة)، وينساق هذا على مجمل آبار النفط في (وادي الفرات).
وباتت هذه الأهداف واضحة، وفي طريقها للتنفيذ، بعد أن تمكنت روسيا والولايات المتحدة من تذليل العقبات، بعد اتفاقية التنسيق العسكري بينهما، أو ما يسمى "منع التصادم"، فحققتا من وراء ذلك مكاسب عسكرية على حساب تنظيم "الدولة" المتقهقر، وأولها السيطرة على منابع النفط.
مآلات النهاية
اعتمدت روسيا والولايات المتحدة، في معركة (وادي الفرات) استراتيجية "القوة المفرطة"، وهي الاستراتيجية الأكثر تدميرا في تاريخ الحروب الدولية المعاصرة، سعيا وراء تحقيق أهدافهما المشتركة، في تنافس واضح، يمنع طرفا دون آخر من الاستئثار الكلي بالمكاسب، مما فتح المجال واسعا، للتفاهم بين موسكو وواشنطن، منذ اجتماع (هامبورغ) الذي ضم (بوتين وترامب)، وما نتج عنه من غرف عمليات تنسيق عسكرية مشتركة (الرصافة، العكيرشي، عفرين)، ولكن ما يقوم به حلفاء الطرفين، يعكس مدى الاختلاف بينهما، كشفت عنها تصريحات أدلى بها نظام "الأسد"، الذي ينوي السيطرة على كامل المدينة، والتقدم باتجاه الضفة اليسرى، في حين هدد مسؤول في المجلس العسكري لدير الزور، المنضوي تحت راية "قسد"، على أن مجرى نهر الفرات، سيكون "خطا أحمر" يفصل بين الطرفين، ولأجل تنفيذ مطامع الروس والأمريكان، اتبعا وسائل مختلفة تصب في مصلحتيهما، ويمكن إجمال ذلك بالنتيجة الأبرز وهي التي تمثلت في "التغيير الديمغرافي".
وفي هذا الصدد كتب الصحفي (عبود حمام)، وهو أول إعلامي دخل مدينة (الرقة) بعد إعلان قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل الوحدات الكردية عامودها الفقري، السيطرة على الرقة وطرد تنظيم "الدولة" منها، كتب التالي "أبكتني رقتي ومدينتي الحبيبة، ستبكون رقتنا كثيرا، منذ يومين أقوم بالتصوير، ولكن اكتشفت بأن خبرتي الصحفية عاجزة أمام دمار بيوتنا، وبيوت أهلنا وأصدقائنا، وكأنني لست بمدينتي، لم أعرفها، مدينة أخرى، دمار كبير، ومدينة لا تشبه الرقة".
هذه الصورة التي نقلها الصحفي (حمام) تنطبق على كامل مدن وقرى (وادي الفرات)، بعد توافق الروس والأمريكان على المشاركة لمكافحة "الإرهاب" المتمثل بتنظيم "الدولة"، وهو أسلوب تقليدي لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، تجلى ذلك من خلال الحملة العسكرية الروسية-الأميركية المشتركة التي استخدمت فيها كافة أنواع الأسلحة الجوية والبحرية والبرية، التي تسببت بأكثر من 120 مجزرة، خلال ثلاثة أشهر، استهدفت فيها حتى المعابر المائية القائمة على مجرى نهر الفرات، مما أدى إلى استشهاد الآلاف وجرح أضعافهم من المدنيين الأبرياء، دون وجود إحصائيات دقيقة توثق أعداد الشهداء، بالإضافة إلى استهداف المشافي والنقاط الطبية، وإطباق الحصار الاقتصادي على المنطقة، مع انقطاع تام للتيار الكهربائي، ومياه الشرب.
وسيكون من المهم الإشارة إلى أن حملة الروس والأمريكان العسكرية لمكافحة "الإرهاب" مثار جدل، فتركيز الحملة يستهدف المدنيين قبل غيرهم، بصرف النظر عن القوانين الدولية التي تحمي المدنيين في الحروب، بعد زج كتل من الميليشيات، للانضواء تحت رايات مختلفة، تظللها أجنحة الطائرات، لتبرير قيامهم بجرائم انتقامية.
ما بعد انهيار التنظيم
بعد اندحار تنظيم "الدولة" من مجمل المساحات الجغرافية الشاسعة، في العراق وسورية، وبعد أن فرض إرادته وسلطته وقوانينه في مجتمع رزح طيلة نصف قرن تحت نير الفقر وغلاء الأسعار وتدني مستوى المعيشة، وإلغاء مشاركته في الحياة السياسية، وما يتصل بذلك من ملاحقات أمنية، سار على ذات المشهد الدرامتيكي، وذلك بالتخلص من القادة العسكريين وناشطي الثورة المدنيين، وأما فصائل الجيش الحر، والمجاميع القبلية التي تصدت له، فقد تعرضت لمذابح جماعية، وانهارت أمام مقاتلي التنظيم ليكون عاملا أساسيا في وأد الثورة بوادي الفرات.
الآن، وبعد تقهقره وتراجعه إلى مساحة جغرافية تضيق به تدريجيا، أمام ضربات موسكو وواشنطن وأحلافهما، فلا شك أنه يواجه نهايته الحتمية، بعد أن افتقد موارده المالية المتنوعة، كخسارته مراكز الطاقة، وكل المعابر الحدودية مع تركيا والأردن والعراق، وخطوط إمداده التي كان يسيطر عليها، فانعكس ذلك سلبا على تحركاته الميدانية، ولم يتوقف الأمر عند قطع الإمدادات، أو الدعم المالي عن التنظيم فقط، ولكن العمليات العسكرية الجوية والبرية أفقدته العشرات من قادته، وبات ذلك من أبرز الأسباب الرئيسية لانهياره وتفككه.
وفي هذا السياق؛ جاء تصريح المبعوث الدولي إلى سورية (ديسمتورا) بأن انهيار التنظيم بات وشيكا، ولن تتجاوز شهر (أكتوبر) الجاري، ووفق ما يجري من انتهاكات في (وادي الفرات)، والعبث بمصير منطقة ذات مساحة كبيرة مأهولة بالسكان، من المبكر الحديث عن انهيار تنظيم "الدولة" وهزيمته عسكريا، رغم مؤشرات اندحاره عاجلا أو آجلا، فطالما بقيت الأسباب التي أنجبت التنظيم قائمة، كأحد محركات الصراع في المنطقة، والمتمثلة في إطلاق يد الميليشيات الإيرانية، وما تفعله في المنطقة، وأخرى تعمل بأحلامها القومية عبر الصورة الصادمة القادمة من مدينة الرقة، واستمرار بقاء نظام "الأسد" الديكتاتوري في سدة الحكم، مع كل جرائمه الشنيعة، وتغليب الغرب مصالحه الخاصة على مصلحة الشعوب الأخرى، بدوافع تاريخية ثأرية نفعية، بات الفصل في الصراع القائم تتحكم به القوة، لا إجراءات العدالة، في وقت تراجعت فيه سلطة ما يسمى بـ"الشرعية الدولية"، يجسده تملق (ديمستورا) وتصرفاته، كناطق إعلامي باسم موسكو وواشنطن، والعبث بالملف السوري، بنقله من أدراج جنيف إلى (آستانة)، وفق تفاهمات ثنائية، قد تؤدي إلى تقسيم سورية، لـ"كانتونات" لا يمكن ضبطها بما تشتهي الدول التي تحتل سورية، لاستكمال نهبها بعد أن دمرت غالبية حواضرها.