بلدي نيوز – (ثابت عبّارة)*
انخفض الزخم "الثوري" في الآونة الأخيرة بوسائل التواصل الاجتماعي، وبدأ الإحباط يسري خفية في عروق "الثوار" الذين تصدروا المشهد السياسي والعسكري للمعارضة خلال الفترة الماضية ، وبدأ الحديث عن انتصار "نظام" الأسد، وهزيمة الثورة وتراجعها بعد توقف العمليات العسكرية من قبل الفصائل العسكرية المعارضة ضد "نظام" الأسد، بسبب وقف الدعم وتحويل مسرح العمليات العسكرية عنها لمحاربة الإرهاب، ودخول اتفاق مناطق خفض التصعيد حيّز التنفيذ.
الثورة السورية لم ولن تنتهي، لأنها الإرادة الحقّة التي بدأت ولم تتوقف، الإرادة والرغبة الباقية والمستمرة في وجدان وعقول جميع السوريين الذين ثاروا من أجل الحرية والكرامة لا لشيء آخر.
إنّ قيام الثورة لا يعني تحقيق أهدافها في الفترة الحالية، فالثورة السورية فريدة من نوعها، ولا يوجد مثال لها في تاريخ الشعوب، إنها مثال جديد ونوع جديد من الثورات سيحتذى به من كل شعوب الأرض.
الثورة السورية هي التغيير الذي أحدثه الشعب السوري بتحطيم حاجز الخوف، حيث انتفض بأروع وأرقى صور التعبير عن التغيير السلمي المنشود لتحقيق الحرية والكرامة، لمدة سبعة شهور، واجه الشعب السوري وبشكل سلمي عنف مافيا الأسد المفرط، ومن ثم كان خيار عسكرة الثورة السلمية في البداية اضطراريا دفاعيا لمواجهة آلة القتل والتدمير الممنهج والعنف والقهر.
إنّ الثورة بتعريفها هي التغيير الناتج عن الاحتقان الحاد الذي يعيشه المجتمع في نواحي حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته كالتظاهر السلمي وغيره من الوسائل الأخرى، هادفاً إلى إيجاد نظام جديد يُحسّن نواحي حياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وفي معرض هذا الخروج عن الوضع الراهن لتغييره تتجلى مسائل عدة تُبعثر الجهد وتخلط الأوراق، (كما حصل معنا في سوريا ) بسبب مساوئ الإدارة السابقة للدولة وتداخل لعبة المصالح الدولية.
بيد أن وصف الثورة يبقى مستمرا بسبب طبيعة الاندفاع الشعبي الذي يحركه عدم رضى معظم فئات المجتمع عن الأوضاع المتردية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
إن قيام الثورة لا يعني انتصارها الفوري، لكن بمجرد قيامها يتحتم انتصارها في وقت ما، لأن إرادة وفعل التغيير بدأ ولا يمكن إيقافه.
لقد دفع الشعب السوري ثمناً باهظا، قبلاً والآن، من أجل حريته وكرامته المهدورة منذ استلام حزب البعث السلطة وتولي الأسد الأب والابن من بعده حكم سوريا، والهيمنة على القوة العسكرية والأمنية وتحويلها من مؤسسات وطنية إلى منظومات مافياوية لحماية الفرد الحاكم والمافيا المساعدة، ومصادرة الحياة السياسية وتفريغها وتقزيمها لتقوم على حزب يُختزل بعائلة وفرد.
مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر المدقع، والفساد، والمحسوبيات، وإفراغ المجتمع من القوى التي تميزه، ومن الإرث الحضاري الغني والتنوع الثقافي الثري، وتفعيل العصبية الطائفية، والتحالف مع جماعات أخرى من باقي الطوائف تعلن الولاء لهذه العصبية، ووضع تركيبة طائفية لمؤسسات الدولة بهدف حماية الفرد الحاكم وعائلته، الأمر الذي أفضى إلى تآكل قيم العيش المشترك، والعقد الاجتماعي، والتشرذم الوطني، وغياب مفهوم المواطنة كمناخ حضاري قانوني ضامن لجميع السوريين، وخلق حالة مزمنة من العداء لهذا النمط من الإدارة الذي صادرت فيه هذه المافيا حتى الماء والهواء لمصلحتها.
ومع توافر عوامل داخلية وإقليمية ودولية هيأت لقيام ثورة في سوريا تتلخص بدرجة احتقان الشعب السوري الذي عانى الاستبداد والقهر، وبهبوب رياح التغيير للربيع والذي تجلى بالتغييرات السلمية التي حصلت في تونس ومصر بدون إراقة مزيد من الدماء، وتعاطف معظم دول العالم مع الشعوب الثائرة ومطالبة الطغاة التنحي تجنباً للمزيد من إراقة الدماء.
كل هذه العوامل أدت إلى قيام الثورة السورية العظيمة كنتيجة حتمية لفعل الاستبداد المستمر منذ عقود.
ولكن ما لذي حدث؟ ولماذا لم تنتصر الثورة؟ وهل انتصر النظام؟
الثورة السورية كانت بحاجة لقيادة وطنية موحدة لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة، وبدون أن تحكمها أيديولوجية معينة وبعيداً عن الأهداف الحزبية الضيقة، ولكن المعارضة السورية، كبنية، لم تكن جاهزة لهذه المهمة، بسبب انعدام الحياة السياسية، وبسبب القمع المديد للنظام لجميع مظاهر المعارضة والعمل السياسي خلال حكمه وصلت لمضايقة ومعاقبة وسجن أقارب أي معارض يقيم أو منفي خارج سوريا.
وبسبب الاختلافات الإيديولوجية بين صفوف المعارضة والنظرة الحزبية الضيقة لأهداف الثورة.
ولأن النظام السوري ظهر أمام المجتمع الدولي كوحش يقتل أبناءه الأبرياء ويدمر المدن والبيوت فوق ساكنيها، فكان المخرج الوحيد أن يخلق وحشاً أبشع صورة منه (الإسلام المتطرف)، ويقنع المجتمع الدولي بأن التخلص من الوحش الأبشع يمثل الأولوية ويجب الاعتماد على الوحش الأسد للتخلص منه، وبالتالي خلق مفاضلة بين الوحشين للتعمية عن حقيقة الواقع وحقيقة المأمول.
ومنذ البداية سعى النظام السوري لتسليح الثورة من أجل وصمها بالإرهاب عبر خلق جماعات عسكرية ادّعت معارضة النظام ومارست قتل السوريين في مناطقها، واستطاع عبر ذلك وعبر تقاطعه مع مصالح دولية وإقليمية، تحويل الصراع من صراع لنيل الحرية والكرامة ضد نظام قمعي مستبد إلى صراع إقليمي دولي يمتطي شمّاعة الإرهاب، الذي صنعه بخبرة عتاة مستشاريه في أجهزة المخابرات ومساعدة إيران والنظام العراقي التابع لإيران، وقوى إقليمية ودولية أخرى لها مصلحتها الخاصة في تظهير الصراع في سوريا بهذه الطريقة.
وشكّل الجيش الحر آنذاك مظلة عامة للعمل العسكري الوطني ضد ممارسات النظام القمعية ولحماية المدنيين والقرى والبلدات والمدن من الاقتحامات والتنكيل بالمتظاهرين، ونال تأييداً شعبياً واسعاً، لأنه كان فعلا اضطراريا للدفاع عن المدنيين بمواجهة القتل العشوائي الذي مارسته مافيا الأسد.
ولكن المعارضة الإسلامية السياسية، المستحدثة لاحقاً، في سباقها المحموم للسيطرة على مراكز القرار في قيادة المعارضة، إن كان في المجلس الوطني أو الائتلاف الوطني لقوى المعارضة وغيرها، ومن خلال الدخول في التنظيمات والهيئات المعارضة التي تكاثرت كالفيروسات للهيمنة على مقدّرات وإمكانات المعارضة والسيطرة على أموال الإغاثة والمساعدات وتحويلها إلى مشاريع ومال سياسي لشراء الولاءات والذمم... أفرغت الفعل الثوري الحقيقي والثورة من مضمونها، وحولت ثورة شعب يطالب بالحرية والكرامة وتتعاطف معه كل الدول, إلى صراع مسلح من أجل السلطة بهدف تأسيس خلافة إسلامية وتحقيق أهداف ومآرب الجهات الداعمة.
وخسرت الثورة الدعم الدولي وتعاطف الشعوب الأخرى بسبب ممارسات الفصائل الإسلامية المتطرفة، وبسبب الماكينة الإعلامية للنظام بإظهاره بطلاً بمحاربة الإرهاب، وبنفس الوقت ضعف إعلام المعارضة بسبب الفساد وتبديد الأموال المخصصة له، وساهمت بعض الدول الداعمة للثورة في حرف الثورة عن مسارها المدني السلمي ذو البعد الوطني.
وأوقفوا الدعم عن فصائل الجيش الحر الوطنية، ودعموا الفصائل المتطرفة المستحدثة، وأغرقوا الفصائل الإسلامية بالدعم، فكان مصير الضباط الوطنيين الذين انشقوا عن جيش النظام: مخيم اللاجئين في تركيا!
وتحول قادة الفصائل العسكرية الإسلامية -الذين لا يفقهون في السياسة أبسط مبادئها- إلى أمراء حرب يحولون المدن والبلدات التي يحررونها إلى سجون كبيرة لساكنيها ويحرموها من الإدارة المدنية، وهم غير قادرين على إصلاح جزئي للبنية التحتية ولا حتى حمايتها من قصف النظام، فأصبح التحرير لعنة على السكان، يترحمون من خلاله على أيام "النظام".
وبات "قوّاد" هذه الفصائل يتحكمون بمصائر الناس بمرجعيات دينية متخلفة ومتطرفة دخيلة على مجتمعنا السوري، وبعيدة عن الإسلام السوري المسالم ومرجعية إسلام بلاد الشام السمحة والعصرية.
مع التذكير أن القوى الكبرى صانعة القرار تتدخل في سوريا من منطلق مصالحها، وهي المصالح التي تعمل على تغذية الصراع دون السماح بحسمه، لأنها لم تتفق بعد على مبدأ تقاسم النفوذ، وفي سبيل تلك المصالح، خذل المجتمع الدولي الشعب السوري في تحقيق إرادته في الحرية والتغيير، وتأكد للجميع أن الإجراءات التي تتخذها القوى الإقليمية والدولية تخدم مصالحها، ولا تهتم البتّة لشعب يتوق للحرية والكرامة الإنسانية.
وصولاً للمشهد السياسي الحالي المضطرب والذي تعمه الفوضى، حيث اتخذ الصراع أبعاداً إقليمية ودولية عميقة وحادة، وأصبحت الدول المعنية تواجه تحديات كبرى داخلية وخارجية، متفاقمة جرّاء الوضع السوري المستمر في التعقيد والخطورة.
ومع التأكيد إن تدخل إيران وحزب الله واستقدام ميليشيا طائفية وزجهم في آتون الحرب السورية أدى في البداية بإطالة عمر النظام، وهو تدخل تبعه تدخل روسي سافر، وتأمين الغطاء الجوي العسكري لمافيا الحكم في دمشق، وانتهاج سياسة الأرض المحروقة والتدمير الكامل للمدن والبلدات وتدمير البنية التحتية والتهجير القسري وحصار المناطق الثائرة لإجبار ما تبقى من السكان لعقد مصالحات تصب في صالح المافيا الحاكمة وبما يـسهم في تغيير جغرافيا الصراع.
ونجحت روسيا في الضغط على داعمي الفصائل العسكرية لتفكيك بنيتها ووقف الدعم عنها.
واستطاع نظام الأسد الاستفادة من وقف العمليات العسكرية ودخول اتفاقات مناطق خفض التصعيد حيّز التنفيذ، بتجميع قواته وطرح نفسه كشريك دولي في مكافحة الإرهاب.
وهكذا اقتنع المجتمع الدولي بالقبول بسرطان الأسد لمحاربة طاعون التطرّف الإسلامي، والذي نشر فيروساته نظام الأسد ذاته، وهنا يكون لنظام الأسد عبر مشاركته في مفاوضات جنيف، فرصة لترميم مصداقيته وشرعيته التي فقدها في الساحة الدولية ابتداء من 2011، وفرصة لعرقلة المفاوضات لحين الوصول إلى الانتخابات المُفترضة، حيث استغل "النظام "سيطرة الحليف الروسي الأقوى على مجريات المفاوضات في ظل الانكفاء الأمريكي لتحقيق شروط أفضل في الحوارات والنقاشات والمفاوضات، في ظل تحكّم القوى الممولة لفصائل المعارضة العسكرية بخريطة الصراع وبما لا يمكنها من إسقاط "نظام" الأسد، ولا يمكّن "نظام" الأسد السيطرة على كامل تراب سوريا!
والمعركة بقوة التدخل الروسي تحولت من معركة ضد مافيا تحكم إلى معارك ضد الإرهاب من جهة، ومعركة خفية لتوزيع النفوذ في سوريا، فـ"النظام" يحاول فرض سيطرته على معظم المناطق في سوريا، ويحاول تحقيق انتصارات بدعم حلفائه على الإرهاب. في الوقت نفسه تستميت فيه إيران لتأمين مناطق نفوذها والطريق من العراق لدمشق وريفها وصولاً إلى لبنان معقل حزب الله ذراعها في لبنان!
وفي بقية المشهد تسعى تركيا لتأمين حدودها وحماية أمنها القومي، وتحقيق مصالحها في سوريا مع محاولة بعض الكرد السعي للسيطرة على مناطق في الشمال وإقامة الحكم الذاتي وتحقيق الانفصال.
والولايات المتحدة التي فضّلت الانكفاء الموظف وعدم التدخل لحسم الصراع في سوريا، بل تغذيته وإطالة عمره لتدمير الدولة السورية وإرجاعها عشرات السنين للوراء إرضاءً لإسرائيل، هذه الأخيرة التي، عبر ذلك، ربحت حرباً على سوريا دون أن تدفع بنساً واحداً بتدمير جيشها وبنيتها التحتية!
والدول الداعمة للإسلام السياسي والتطرف الإسلامي تعيث خراباً بالمعارضة السياسية والعسكرية ومستقبل سوريا.
حيث وصلت القضية السورية لنفق مسدود ومعتم وبحاجة لوقت طويل لإنهاء الصراع، عبر القضاء على الفصائل الإسلامية المتشددة، وإجراءات أخرى.
وبغض النظر عن نتائج المفاوضات والحل السياسي، فستبدأ صراعات أخرى من أمراء الحرب والميليشيات الطائفية وعصابات الدفاع الوطني والشبيحة ومئات الآلاف من حملة السلاح المنتشر في سوريا، وستنتشر حرب العصابات والممارسات الانتقامية والإجرامية من خطف وسلب ونهب بسبب ضعف الدولة الحالية أو القادمة.
ولا ننسى الاحتراب القادم بين العرب والكورد في المناطق المتداخلة ديموغرافياً بعد الانتهاء من" تنظيم الدولة الإسلامية".
الأسد لم ولن ينتصر، بل سقط منذ أول صرخة حرية معترضة من الجموع الثائرة على حكم الفرد والمافيا، ومن أول طلقة وجّهت لصدور الشباب الثائر لقمعهم، ووجوده في سدّة السلطة حتى الآن ما هو إلا شكل صوري حتى تنتهي حسابات الدول صانعة القرار في الساحة السورية.
الثورة السورية لم ولن تنتهي، إنما الواقع الذي نمر به عبارة عن مخاض عسير نحو ولادة الحرية لشعب قدم الغالي والنفيس لأجل هذه الولادة الجديدة.
- ثابت عبارة – الرئيس التنفيذي لشبكة بلدي الإعلامية