بلدي نيوز- (المحرر العسكري)
انتشرت خلال الأعوام الماضية ظاهرة "المواطن الصحفي" والتي تعتبر طفرة في مجال الإعلام، خصوصاً أنها ترافقت مع التطور الكبير في وسائل الاتصالات، والتي يدعمها نموذج مواقع التواصل الاجتماعي التي تسمح بإنشاء صفحات وحسابات، تعتبر بمثابة وكالات إعلامية غير رسمية، تقوم على عملية نشر الأخبار بحسب المنطقة أو الاهتمام، حيث تعمل هذه الصفحات عمل وسائل الاعلام التقليدية ولكن بأسلوب مختلف.
مع تعقد الصرع في المنطقة وتشابك خيوطه، ومع الحاجة للمزيد من المعلومات، ودخول الأحداث إلى مناطق لا يمكن بمكان أن تكون كل وسائل الاعلام فيها، فقد نجحت هذه الصفحات والمجموعات في الانتشار والتطور، وبالأخص أن الحروب الحالية دخلت تقريبا إلى جميع المناطق الريفية، وحولتها الى ساحات معارك فقيرة بمصادر الاخبار، ما جعل منها فرصة سانحة لهذه الصفحات لتنمو وتتطور، وحولها لمصدر للمعلومات لا غنى عنه، وبخاصة للأشخاص الذين يعملون في هذا المجال من على بعد الأف الكيلومترات، او حتى المتابعين العاديين.
ظهور هذه الصفحات ومستوى الاعتماد عليها، حولها من مجرد مصدر مناطقي للمعلومات، إلى خلايا في حرب نفسية عالية المستوى، تعتبر أحد عناصر حروب الجيل الرابع التي تعتبر المعلومات أحد أسلحتها وربما أكثر أسلحتها فتكا.
فقبل حوالي 15 عاما، كان الحصول على خرائط ميدانية لتوزع القوى حكراً على طبقة معينة من الضباط الأمراء (برتبة عميد فما فوق) أما اليوم، فيمكن لأي شخص يملك حاسوبا أن يحصل على الخرائط التفصيلية لأي معركة في العالم، الأمر الذي يعتبر خرقاً على المستوى النفسي قبل التقني.
فهذه الخرائط وغيرها من الأخبار والتفاصيل الإعلامية، تعتبر سلاحاً فتاكا، خصوصاً في حال انعدام وجود مصدر محايد وموثوق للمعلومات، ما يسمح بتنفيذ "هجمات" إعلامية وسيكولوجية ضد الأطراف المستهدفة. إضافة لعمليات الدعم النفسي والمعنوي للقوى التي تُدعم باستخدام هذه المفاهيم الاعلامية الجديدة، والتي تعتبر أحدث أشكال الحرب النفسية في التاريخ البشري.
فمثلا، نلاحظ مؤخراً أن النظام والروس مثلاً يعرضان خرائط لسوريا ونسب السيطرة عليها، تظهر أنهما متضخمان في السيطرة، ويسيطران على مساحات أكبر مما هو في الواقع، وبخاصة عملية اضافة مناطق (تابعة للعدو) إلى الخرائط التي يسيطرون عليها، يفهم منها تلقائيا أنها منطقة مهددة بالهجوم عليها وأنها ضمن استراتيجية النظام التوسعية، في سعي لخلق حالة من التوتر والترقب لدى الأشخاص الموجودين فيها، ربما تعتبر مساعدة في سقوطها فعليا بيده، بسبب هذا الأسلوب من الحرب النفسية، حيث ترافقها الدعاية المختلفة والتعليقات والمقالات والفيديوهات التي تبث هنا وهناك (من مصادر موالية للنظام) حول حتمية سيطرته عليها، والتي تخلق وهما مفاده أن النظام مدعوم من قوى جبارة وأنه "لا مفر من انتصاره" .
الصفحات والوسائل الاعلامية المختلفة التي تعمل على نشر الأخبار الميدانية، تنشر الكثير من الصور والفيديوهات، والتي تتعرض للتحليل المكثف على عدة مستويات، من مستوى الاشخاص العاديين إلى مستوى الدول والاجهزة الاستخباراتية، ما جعل من هذه الصفحات تستخدم كذلك كسلاح مناسب للكثير من الأمور، أولها نشر الأخبار والتسريبات التي تود الأطراف نشرها وعلى سبيل المثال، نشر صور العتاد الروسي، الذي وصل للنظام، ونشر صور رأس النظام يعاينه، كدليل على أن النظام يحصل على الكثير من الأعتدة الروسية الحديثة، في حين ما يحصل عليه فعلياً هو المنسق من مستودعات الروس.
ما يجعل من الحرب الحالية، حربا سيكولوجية بامتياز، فهي تعتمد بالدرجة الأولى على خلط التأثير العسكري المباشر مع التأثير النفسي الذي أصبح نشره أكثر سهولة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
أما العملية الثانية التي تعمل عليها هذه المواقع، هي موضوع التأطير السلوكي، والذي يعني ببساطة إجبار المدنيين على الاختيار بين مجموعة خيارات محددة سلفاً والتركيز عليها دون غيرها بعد غرسها في عقولهم الباطنة، واغلاق جميع الخيارات الأخرى في وجوههم، ولعل أشهر العمليات من هذا النوع هي عملية (إدلب ستواجه مصير الموصل)، والتي تعتبر فعلياً علية تأطير منهجية واضحة، تنفي باقي الاحتمالات المتعلقة بإدلب والتي منها أنها قد تسيطر على سوريا كلها، أو أنها قد تنفصل وتتحول لدولة مستقلة أو ذات حكم ذاتي الخ من الخيارات التي سعى القائمون على هذه العملية لحذفها من التداول، والابقاء على نموذج "الموصل" كخيار وحيد لما سوف تواجهه إدلب.
الفكرة الأساسية في مثل هذه الحملات والعمليات النفسية والسايكولوجية، أنها تحتاج عدداً كبيراً من الصفحات والمواقع التي تعمل بشكل منظم لتنفيذ هذا النموذج من العمليات، فهي تحتاج لوقت معتبر نسبياً، وتنسيق عالي وقيادة موحدة إضافة لعدد معتبر من الصفحات والمصادر والشخصيات، والتي يبدو أن النظام متفوق فيها كما ونوعاً بهذه المرحلة، فهو يدير المئات إن لم نقل الآلاف من الصفحات والمعرفات والمواقع، التي تعتبر سلاحه الأكثر فتكا خلال هذه المرحلة من الحرب، والتي تروج لهزيمة الثوار، وتضعهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام والرضوخ وإما الموت تحت القصف، متجاهلة أن هتلر نفسه كان تعرض لأكبر هزيمة مذلة عبر التاريخ البشري، رغم أنه كان على بعد أمتار قليلة من دخول موسكو، ومع ذلك تحول النصر هزيمة والهزيمة نصراً، الأمر الذي يسعى الأسد وداعموه للشطب أي احتمالية له من خيارات السوريين، الذين ثاروا عليه.
ما يجعل من الوهم والخوف والاختيارات المغلقة التي تصب في مصلحة النظام وداعميه، والتي يروجها الاعلام الموالي أو المخترق، أحد أهم أسلحة النظام وربما أكثرها فتكاً، فهو يجعل الهزيمة لا مفر منها، في حين يكون النصر على بعد أمتار قليلة.