بلدي نيوز – إدلب (محمد خضير)
تمرّ بالإنسان مواقف لساعات أو ربما لحظات بسيطة لا يهم الزمن أمام عظمة تلك المواقف التي تعتبر أشبه بالمستحيل، ترتسم هذه المواقف في مخيلته وتبقى دليلاً على قذارة المسبب ودمويته القاتلة بحق الأبرياء إلى الأبد، يتداولها الناس كونها نقطة تحول في حياة الانسان فكيف إن كانت لحظات في ضيافة الموت.
عبدالرحمن طالب، أحد الناجين من مجزرة ارتكبها نظام الأسد في الرابع من الشهر الجاري في مدينة سلقين الواقعة في أقصى ريف إدلب الشمالي بعيد مجزرة الكيماوي في مدينة خان شيخون بأقصى ريف المحافظة الجنوبي وكأن نظام الأسد أراد أن يعطي رسالة مفادها نشر الموت من الجنوب إلى الشمال في محافظة كانت عصياً عليه وصمدت في وجهه كثيراً.
كان لبلدي نيوز وقفة مع عبد الرحمن روى فيها الساعات التي قضاها تحت ركام الموت مع صديقيه الذي استشهد أحدهما ونجا الآخر.
قال عبد الرحمن: "كنتُ أقرأ كتاب المجَرَيات للدكتور إبراهيم السكران، فك الله أسره، ثم أغلقت الكتاب قليلاً لأتابع الأخبار فتحت "الفيس بوك" وإذ بخبرِ مجزرة الكيماوي في خان شيخون، علقت على الخبر بمنشور فحواه "نحن بالنسبة لهذا العالم لسنا ضحايا، ولا حتى بشر نحن أرقام في إحصائيات فقط، ونحن عاجزون أيضا، لا نمتلك إلا أن نتزود بزاد بسيط للآخرة، عندما يأتي دورنا لنصبح رقماً في مجزرة أخرى".
وأضاف، قررت أنا وصديقي محمود الخروج لنهرب من الواقع الافتراضي، ذهبنا لصديقنا بائع العطور "باسم" لنشرب القهوة، وكان عقدُ قرانِ محمود اليوم، جلسنا عند باسم، و تبادلنا أطراف الحديث، وإذ بصوت انفجار شديد خمس ثوانٍ أو أقل، وأصبحنا طريحين على الأرض، إنها غارة للطيران على السوق الشعبي في مدينة سلقين.
وأردف عبد الرحمن، أُظلم المكان وأصبحنا عاجزين عن الحركة، لكننا مازلنا أحياء وبدأنا نقرأ ما نحفظه من الأذكار والقرآن ونطرح أسئلتنا هل هي النهاية؟ كان كل شيء يوحي بالموت، الطوابق الأربعة المهدمة وركامها فوق رؤوسنا، خزان الماء انفجر وبدأ الماء يغطي المكان ويعلو منسوبه قليلاً.
بدأت اسأل نفسي هل سنموتُ غرقاً؟ لكن الماء لم يفعل ذلك، يبدو أنه الماءُ المذكور بسورة الأنفال "وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ"، فقد خففت المياه الغبار من الجو بشكل كبير، وأعطت دفعة للحياة ثم تفرقت في جيوب الحطام.
كانت مساحة المكان كله 4 أمتار، بارتفاع متر واحد، و كنا ثلاثة أشخاص، بعد 15 دقيقة تقريباً من الانفجار أُغمي علينا، وبعد مدة أقدرها بنصف ساعة كنتُ أول المستيقظين، باسم على يميني، ومحمود على شمالي، بدأت أنادي لهم، باسم باسم، محمود محمود، باسم كان يتمم "يا الله"، ثم تحركت أعضاؤه بشكل غريب وسريع، فقلت له أهدأ يا باسم أهدأ وانطق الشهادتين، لكن باسم بقي يتمتم " يا الله، يا الله" ثم هدأ إلى الأبد، فقد كانت تلكَ الحركات هي سكرات الموت.
أيضاً محمود كان يتمم بالأذكار ليستيقظ بعد قليل ويبداً التحدث معي، قلت له مازحاً "إن شاء الله اليوم سنعقد قرانك، ولن نؤجل العقد ليوم آخر"، فضحك وقال "المهم نخرج من هون"، وقلت له "سنخرج وسأفرج بيوم عرسك"، ثم قطع الحديث صوت آلة الحفر (الكومبريسا ) فوقنا، فقلت له يبدو أن فوق الموت عصت قبر ... وضحكنا.. ثم عدنا لقراءة الأذكار والقرآن التي نحفظها.
كان محل العطر يحتوي على ما يقارب 400 لتر من العطر أو أكثر، والمحل مدمرٌ بالكامل، فقد انفجر الصاروخ الارتجاجي بالقرب منه، لكن كل تلك العطور لم تغطِ رائحة الموت والأشلاء والدماء.
وفجأة سمعنا أصوات عناصر الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) وبدأنا نناشدهم، ونخبرهم بمكاننا، وبعد 4 ساعات ونصف بدأ خيط ضوءٍ يتسلل إلينا، لكن لا أدري هل كانت خمس ساعات أو أقل، أو خمس سنين، أو خمس ثوان، أو جميعهم، لعلها خمس سنين عندما خفت ؟! وخمس ثوانٍ عندما ناجيتُ الله وضحكت، هي مشيئة الله ثم إرادة الحياة مع تمني الموت.
بدأ التفكير يضرب راسي، إنه الفرج، ثم بدأ الضوء يكبر ويكبر معه الشق بالحائط، حتى أصبح كافياً لمرور شخص منه، وكأي إنسان يعيش هذه الظروف في البلاد، كان الخروج وعدمه سواء، دخل ضوءٌ قوي صادر من خوذة أحد عناصر الدفاع المدني، وقال "اقتربوا لأنتشلكم"، كان صديقي الأقرب وبدأ المحاولة للنجاة ونجح، كنت أشاهد ذلك على ضوء الخوذة، ومباشرةً عندما خرج صديقي تبعته ووصلت إلى الشق وبدأت الخروج حتى نجحت في ذلك، وأخبرتهم عن باسم الذي اختطفه الموت من بيننا.
تزاحمت وجوه المصورين حولي سريعاً، وأشعلوا أضواء كميراتهم للتصوير، لقد عميتُ تقريباً، فبعد خمس ساعات من الظلام انهالت علي الأضواء، صَرخت بهم يكفي، أنا لستُ سلعةً إعلامية يتفاعل معه القوم آخر الليل، ودفعت بيدي أجهزتهم وأضواءها عن عيوني، لقد دَفعتُ عدداً من الناس حتى وصولي إلى سيارة الإسعاف، وصلت إلى المستشفى الميداني وبفحص سريع خُرجت منه أنا وصديقي ولله الحمد معافيين، إلا من بعض الجروح والخدوش الطفيفة هنا وهناك.
آتى الليل وشعرت بالذنب لما اقترفتُ من ذنبِ دفعِ الأخوة الذين كانوا يصورونني، ليوثقوا جرائم الأسد بحق الشعب المكلوم، وعدت إلى مكان تنفيذ الغارة كالمجرم الذي يعود إلى مكان جريمته, لكن لا أعلم إن كنتُ محقاً بما فعلت أو مذنباً، هل نحن سلعة إعلامية أم أن التصوير أصبح موضة وأين احترام خصوصية الإنسان، وكان عناصر الدفاع المدني والناس مازالوا يستخرجون الجثث من تحت الأنقاض واعتذرتُ لهم وعانقتهم.
وختم "طالب" حديثه، لا أعلم مدى إجرام النظام، فسلقين من أكبر المدن في المناطق المحررة وفيها الكثير من النازحين من المدنيين، ومع ذلك أغارَ الطيران عليها، في السوق والجامع والمدرسة التي تحوي مئات الطلاب، لترتفع حصيلة الشهداء إلى 33 شهيداً، وعشرات المصابين وكلهم أرقام في ميزان الضمير العالمي.