بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
تمهيد:
يناقش هذا الملف مؤتمر "أستانا" في إطار العملية السياسية التي أطلقتها روسيا بمشاركة كل من تركيا وإيران وفصائل المعارضة المسلحة ونظام الأسد, ونمهد لهذا النقاش باستعراض تحليلي موجز للظروف التي أحيطت بالمؤتمر في بعده السياسي وصلة ذلك بمآلات ما سيتمخض عنه وارتداداته على كل أطراف الصراع في سوريا.
ثم نتناول بالتحليل جوانب مخرجات المؤتمر أطرافا وخططا وتفاعلات ونتائجا, ونقف على أسباب تغيّر الموقف الروسي، وتباينات التفسيرات للبيان الختامي لكل طرف، واختلاف توجّهات روسيا ومصالحها، وأسباب تسارع وتصاعد هذا التغير روسياً, ونبين
تخبط نظام الأسد, وحرج الضامن الإيراني وخياراته, ومكاسب المعارضة, وانعكاسات ذلك على جبهة "فتح الشام" وصراعاتها مع بعض فصائل الجيش الحر كنتيجة لمؤتمر أستانا.
مقدمة:
عام ونصف تقريبا على التدخل العسكري الروسي في سوريا لمساندة نظام الأسد بعد فشل إيران وميليشياتها في القضاء على الثورة السورية من خلال زج كل إمكانياتها الاقتصادية والعسكرية في أتون الحرب العدوانية ضد الشعب السوري, وتمكنت روسيا من خلال طيرانها الحربي من تدمير غالبية الحواضر السورية, وبعد تهجير سكان مدينة حلب المحررة, أطلقت موسكو إعلانا عن وقف العمليات القتالية بين فصائل الثورة من جهة, ونظام الأسد ومعه ميليشيات إيران من جهة أخرى. وجاء تغير الموقف الروسي سريعا وتصاعديًّا بمنحه شرعية للمعارضة المسلحة التي طالما ما اتهمها بالإرهاب, وحجم أطرافا من حلفائه.
بدأت ملامح المراجعة الروسية لاحتلالها سوريا تأخذ منحى مختلفا منذ الثامن من كانون الثاني/ ديسمبر الماضي، عندما أعلن وزير الخارجيّة الروسي، سيرجي لافروف، إثر لقائه نظيره الأميركي، جون كيري، عن توقّف العمليّات القتاليّة لقوات نظام الأسد في شرقي حلب، وأعلن لافروف حينها أن ذلك يتعلق بأسباب إنسانيّة تهدف إلى إخراج المدنيّين من مدينة حلب, كما اجتمع خبراء روس وأميركيون في جنيف لإخراج جميع فصائل الثورة المسلحة. وإثر ذلك دعت موسكو إلى اجتماع موسع ضم وزراء خارجية ودفاع كل من روسيا وتركيا وإيران، خرجوا ببيان "إعلان موسكو"، الذي تضمن نقطتين أساسييتين: توسيع وقف إطلاق النّار ليشمل الأراضي السّوريّة كافّة وجميع الأطراف المتحاربة، باستثناء "جبهة فتح الشّام" و"تنظيم الدولة"، ووضع خريطة للحل السياسي.
ترافق ذلك مع لقاءات رعتها تركيا بين روسيا من جهة, وفصائل الثورة المسلحة من جهة أخرى. بهدف إحياء المسار السياسي, وصفت بالمتعثرة, تمخضت بنتيجتها عن ما عرف "باتّفاق أنقرة" الذي نص على بنود رئيسية: وقف العمليات القتالية بين فصائل الثورة وقوات نظام الأسد, والتأكيد على وضع آلية لمراقبة وقف إطلاق النار بضمانة روسية تركية, والتحضير لمؤتمر أستانا الذي شهدته العاصمة الكازاخستانية. وفي تفاصيل تغير المنحى الروسي, وارتدادات مؤتمر أستانا لابد من إيضاح النقاط التالية:
- تخبط نظام الأسد
منذ اندلاع الثورة السورية قبل ستة أعوام, يضع نظام الأسد خيار الحسم العسكري موضع التنفيذ مع استمراره على موقفه السياسي المراوغ, كما يضاعف من تأكيد هذا الخيار خروقاته المتكررة في حملته العدوانية على وادي بردى والغوطة الشرقية وعموم المناطق المحررة, واستمراره في خطة التغيير الديمغرافي بمحيط العاصمة دمشق وريفها. ولأول مرة يوجه الروس توبيخا علنيا, بصيغة تحذير لنظام الأسد لقيام قواته بانتهاكات علنية لوقف إطلاق النار، جاء ذلك بحسب ما ذكرت وكالة "ريا نوفوستي" الروسية عن مسؤول في قاعدة "حميميم"، وصفته بأنه رفيع المستوى قوله: "إن مركز المصالحات الروسي أشار بحزم لقيادة القوات الحكومية السورية بضرورة التزام قادة محددين من هذه القوات باتفاق وقف إطلاق النار"، الذي جرى توقيعه في أنقرة برعاية روسية- تركية في التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وتزامنا مع انعقاد مؤتمر أستانا, صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف "إن نظام الأسد كان على وشك السقوط خلال أسبوعين أو ثلاثة لولا تدخل القوات الروسية"، وهي رسالة صريحة من لافروف للأسد أن مصيره بيد روسيا وعليه الالتزام بالإملاءات الروسية والكف عن تعطيل المسار السياسي الذي تتبناه موسكو.
فالأسد الذي يصر على وصف كل فصائل الثورة بالمجموعات الإرهابية, يتناسى أن سجله الإجرامي لم يعد بإمكان الروس تحمله, وهذا ما دعا مسؤولاً روسياً وصف بالرفيع المستوى أن يتحدث لوفد من العسكريين السوريين المنشقين بقوله إنه لم يعد أحد قادر على تحمل الأسد
في إشارة إلى أن القرار بالنسبة للقضية السورية هو قرار فلاديمير بوتين, لا قرار الأسد ولا قرار نظامه. وهكذا فقد كان على نظام الأسد أن يدرك بأن مقاليد الأمور في سوريا ليست في يده، بل في أيدي الروس وأن العلاقات بين الدول علاقات مصالح, وأن التدخل العسكري الروسي في سوريا، كان من أجل مصلحة محددة عنوانها قاعدة "حميميم"، وتوسيع قاعدة طرطوس، والوجود العسكري على شواطئ المتوسط الشرقية، وأخْذ روسيا مكانتها في هذه المنطقة الاستراتيجية كدولة قطبية, وعلى الأسد أن ينتظر لحظة رحيله النهائي، وهي لحظة باتت قريبة.
- إيران وخياراتها
تؤكّد شواهد الأحداث العسكرية والسياسية منذ التدخل الإيراني في سوريا, أن ميليشياتها الطائفية متعددة الجنسيات تحاول الاستيلاء على مناطق جديدة بهدف إفشال أي مسعى سياسي, وأن خيار الحسم العسكري العنوان الأبرز لرؤية ملالي طهران لاسترداد مناطق خسروها في معارك ضد فصائل الثورة العسكرية.
من أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب، ما قامت به الميليشيات الإيرانية في هدنة شباط/ فبراير 1916م, وما سبقها من هدن واتفاقيات نتيجة مساع سلمية داخلية وخارجية متباينة القدر بقصد تسوية سياسية بين طرفي النزاع, إلا أن إيران تقدم دائما خيار القوة على خيار التسوية السياسية.
ففي إعلان وقف إطلاق النار في حلب في شهر كانون الأول من العام الماضي إثر التسوية التي قضت بإخراج كل أهالي حلب المحررة وفصائل الثورة, لم تلتزم الميليشيات الشيعية وعلى رأسها ميليشيا "حزب الله" اللبناني بالاتفاق وانتهكته وعطلته لولا تدخل الروس.
إن سلوك إيران في سوريا يدفعها إلى استباحة كلّ محرم؛ من مالٍ وعرض ودم. ولم تسلم من ذلك مدن وبلدات سورية احتلتها إيران, وحاولت بتغطية دولية سحق الثورة السورية ووأدها, ولم تلتفت لأيّ من نداءات السلام في محاولة منها احتلال سوريا والهيمنة الأبدية عليها.
وفي الوقت الذي حاولت فيه إيران متابعة العمليات العسكرية بعد حلب للتخلص من "الإرهابيين" كما يدعون, قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قبل توقيع "اتّفاق أنقرة" بأسبوع، بإبلاغ الإيرانيين وحليفهم الأسد أنّ المهمّة الأساسيّة في الوقت الراهن باتت "التوصّل إلى تسوية سياسيّة شاملة"، وأعلمهم عن قرب التوصّل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار في سوريا.
وبدأت روسيا وتركيا مفاوضات وقف إطلاق النّار، وانتهت باتفاقهما مع تهميش أي دور لإيران في الاتّفاق النّهائيّ، ولم تكن أحد ضامنيه أو المشرفين عليه، وسرّبت أخبارا أن ميليشيات إيران ستغادر سوريا بناء على قرارات روسيّة.
وعندما تم إفراغ حلب المحررة من ثوارها وسكانها كانت إيران تعتزم احتلالها, لكن روسيا أعلنت عن إرسالها كتيبة من الشرطة العسكرية الروسية لتوفير الأمن في هذا القسم من المدينة، ولتأمين سلامة القوافل الإنسانية والمستشفيات فيها أيضا, وبالفعل انتشرت هذه الشرطة بسرعة في حلب، ومنعت دخول الميليشيات الإيرانية وميليشيات نظام الأسد, واعتقلت العشرات من عناصر المخابرات التابعة لنظام الأسد لمخالفتهم الأوامر العسكرية الروسية.
أمام تسارع وتيرة الأحداث تخشى روسيا من تمدّد النفوذ الإيراني العسكري على الأرض، فقد سيطرت إيران وميليشياتها، اللبنانية والعراقية والأفغانية، على الأرض، وهذا يختلف مع الإستراتيجية الروسية، ما دفعها إلى التدخل بريا, كما حدث في حلب بالتوازي مع إطلاق عملية سياسية تحد من النفوذ الإيراني الذي بات يهدد الاستراتيجية الروسية في سوريا. فنظام الأسد لم يعد يمتلك سوى ميليشيات غير قادرة على السيطرة بمفردها على أي منطقة في سوريا, لذلك بسطت الميليشيات الإيرانية سيطرتها على غالبية المناطق السورية المحتلة وفق استراتيجيتها في ترسيخ مشروعها الهلال الشيعي, لذلك اصطدمت الاستراتيجية الروسية بالاستراتيجية الإيرانية. ما شكل منطلقا للخلاف السياسي والعسكري بينهما ولم يعد أمام إيران سوى الانصياع مع حليفها الأسد لما تريده روسيا, وهذا ما اتضح في مؤتمر أستانا.
-مكاسب المعارضة وارتدادات مؤتمر أستانا على الداخل
منذ اتفاق أنقرة بين روسيا والمعارضة السورية المسلحة, ودعوتها إلى كازاخستان, ومفاوضاتها العلنية في مؤتمر أستانا, يعد هذا تطورا واعترافًا واضحًا وعلنيا بالمعارضة السورية المسلحة ممثلا شرعيا للشعب السوري الثائر التي طالما ما أصر الروس على توصيفها بالجماعات الإرهابية، لتتحول إلى طرف مُحاور وشرعي, واعتمدت في المؤتمر جملة (مجموعات المعارضة المسلحة) التي اقترحها الجانب التركي ورفضها الإيرانيون وحليفهم الأسد وإصرارهم على عبارة المجموعات المسلحة لإسقاط كلمة المعارضة والإبقاء على كلمة مسلحة لإعطاء انطباع أن القضية السورية ليست سياسية, إنما تمرد تلك المجموعات على السلطة الشرعية, وفي هذا الصدد قام ممثل روسيا بتوبيخ رئيس وفد نظام الأسد في مؤتمر أستانا عندما قال له أنت تعيش في عالم غير عالمنا, وساوى بيان المؤتمر الختامي بين المعارضة السورية المسلحة والحكومة السورية بعد حذف جملة الجمهورية العربية السورية التي تخص طرفي الصراع, وفرضت المعارضة السورية حذف كلمة علمانية, واعتماد سوريا دولة غير طائفية ومتعددة الأعراق والأديان, وأصرت المعارضة في كل بياناتها على لسان رئيس وفدها محمد علوش أن مؤتمر أستانا لا يؤسس لحل شامل في سوريا, إنما يرسخ قرار وقف إطلاق النار, ويعتبر توطئة ومقدمة لمؤتمر جنيف الذي سيعقد في الثامن من شهر شباط القادم كي لا تخرج القضية من إطار الأمم المتحدة, وأظهر المؤتمر أن وفد المعارضة السورية طرف أساسي في أي محفل دولي, وتمت دعوته إلى موسكو في 27 الشهر الجاري.
هذا المنعطف المستجد في السياسة الروسية، يوجب على المعارضة السورية العمل على تفصيل كل قرار وتصريح روسي بعمق، والتوقف عند كل جزئيّة، سياسيّة أو عسكرية, فنظام الأسد يحاول زج معارضته الداخلية, وهي مجموعة من الأحزاب والتيارات الهزيلة المرتبطة بأجهزة مخابراته حيث إن غالبية هذه التيارات تصر على بقاء الأسد رئيسا, وتعمل وفق أجندات أجهزته الأمنية, وبذلك تعمل إيران وحليفها الأسد على تذويب المعارضة الحقيقية ضمن معارضات متباينة, وإفراغ مطالبها من مضمونها.
وعلى المعارضة السورية المسلحة مراقبة تطورات عودة الإدارة الأميركية إلى الملف السياسي السوري من خلال دعوة ترامب إلى إقامة مناطق آمنة في سوريا, والعمل على إيجاد مخرج للقضية السورية التي أضحت عبئا على الجميع إقليميا ودوليا.
عطفا على مجريات مؤتمر أستانا قامت جبهة فتح الشام "النصرة سابقا" بهجوم واسع ضد جيش المجاهدين وبعض فصائل الجيش الحر في الشمال السوري المحرر, وأصدرت بيانا كشفت فيه أسباب حملتها ضد فصائل الجيش الحر المشاركة في أستانا, لتعلن غالبية تلك الفصائل انضمامها إلى حركة أحرار الشام, وأعلن قائد الحركة أبو عمار العمر أن "جبهة فتح الشام" رفضت المبادرات التي قُدمت إليها لإيقاف الاقتتال والهجوم على الفصائل، وعليه نعلن النفير العام لكامل قطاعات وألوية وكتائب الحركة. وتحاول جهات ثورية مدنية العمل على وقف الاقتتال الدائر بين "جبهة فتح الشام" وبعض فصائل الجيش الحر.
خلاصة:
من خلال استعراض تداعيات مؤتمر أستانا, وتخبط نظام الأسد وحلفائه الإيرانيين, ومساعي روسيا "الحيادية", وإعطاءالمزيد من الوقت للعملية السياسية وفق تغير واضح في الاستراتيجية الروسية وتوبيخها المتكرر لنظام الأسد والحد سياسيا من النفوذ الإيراني ينبغي على المعارضة السياسية العمل المنظم في إدارة الصراع السياسي من خلال التمسك بثوابت الثورة السورية وفق القرارات الدولية الصادرة في جنيف كأساس عملي لأي تسوية سياسية, ولا يكفي إعلان قادة فصائل الثورة تحفظهم على بعض بنود مؤتمر أستانا, ما دام رعاة ودعاة التسوية السياسية طرفا في العدوان على الشعب السوري الثائر, وهنا يفترض بالمعارضة السياسية التفاعل مع حاضنة الثورة للوقوف ضد كل المشاريع التي تحاك في دهاليز السياسة الدولية والإقليمية والمحلية.