ذا إنترسيبت- (ترجمة بلدي نيوز)
في أوائل عام 2011، حين خرج المحتجون المطالبون بالإصلاح السياسي إلى شوارع المدن السورية، رامي مخلوف رجل الأعمال السوري المقرب من بشار الأسد، ظهر في مقابلة مع الصحفي الراحل لصحيفة نيويورك تايمز -أنتوني شديد.
لقد حكمت سلالة الأسد سوريا لعقود من الزمن، ولكن النظام جنباً إلى جنب مع صلته بالنخب السياسية والاقتصادية في البلاد، اهتزّ على حين غرّة، فقد ظهرت انتفاضات أطاحت مؤخراً بالديكتاتوريّات القائمة منذ فترة طويلة في كل من تونس ومصر، في منطقة باتت مكهربة بشكل مفاجئ من احتمال التغيير السياسي، في حين بدأ العديد بالتكهّن بأن النظام الحاكم في سوريا قد يكون المقبل.
في تلك المقابلة، صرّح مخلوف بتحذير مبطّن للمعارضة السورية والمتعاطفين معها، قائلاً: "لا أحد يستطيع ضمان ما سيحدث لاحقاً، لا سمح الله أن يحدث أي شيء للنظام، ولكن لا تضعوا الكثير من الضغوط على الرئيس، لا تدفعوا سوريا للقيام بأي شيء ليست سعيدة بالقيام به"، معقّباً: "يجب أن يعلموا بأننا عندما سنعاني، فإننا لن نعاني وحدنا"!
بعد خمس سنوات، وعكس توقعات الكثيرين، احتفظ نظام الأسد بقبضته على السلطة، و كما وعد مخلوف فقد عانى الكثيرون و قتل مئات الآلاف من السوريين وشوهوا، في حين أن الحرب حولت المدن العريقة مثل حمص وحلب إلى ركام وأنقاض.
إن المأساة السورية ذات بعد عالمي أيضاً، ألا وهو نزوح ما يقدّر بنحو 5 ملايين شخص من منازلهم في سوريا على مدى السنوات الخمس الماضية، لقد فرّ اللاجئون سيراً على الأقدام، محشورون في السفن، في قوارب مطاطيّة، مودعين حياتهم في أيدي المهربين في محاولة منهم للهروب من جحيم بلادهم التي دمرتها الحرب، لقد حطّ مئات الآلاف منهم على الشواطئ الأوروبية غير مُرحّب بهم على نحو متزايد، إن ما يقرب من 3 ملايين منهم يعيشون الآن في تركيا وحدها.
وخلافاً لمواطنيه، لا يظهر النظام السوري أي علامة على المغادرة القريبة، ففي مقابلة أجريت معه مؤخراً، تعهّد الأسد بحكمِ سوريا على الأقل حتى عام 2021، في حين تعهدت حكومته باستعادة "كل شبر" من الأراضي السورية من سيطرة المعارضة.
و تميل القوى الخارجية لقبول هذا الوضع، وقبول الأسد كشريك في تحقيق الاستقرار في سوريا، فقد اقترح الرئيس المنتخب دونالد ترامب مراراً وتكراراً بأن إدارته على استعداد للعمل مع الأسد، في حين أنه امتدحه ضمنياً حتى، في نقاش بكونه "أكثر صرامة وذكاء" من زعماء الولايات المتحدة.
بل ما ساعد وصول ترامب بنفسه إلى سلطة -في جزء منه، هو رد الفعل القومي العالمي الذي أثير في أعقاب نزوح اللاجئين، ولكن إذا ما قررت إدارته الدخول في شراكة مع نظام الأسد لـ "استقرار" سوريا على المدى الطويل، فمن المرجح أن يجعل بذلك من أزمة اللاجئين أزمة دائمة عوضاً عن حلها.
فقد اختار ملايين السوريين بالفعل الفرار من بلادهم بشكل كامل، بدلاً من الاستمرار في أن يُحكموا من قبل نظام الأسد، لقد فعلوا ذلك خوفاً من القنابل البرميلية، والاحتجاز التعسفي إلى أجل غير مسمى، والتعذيب الهمجي، والهجمات بالأسلحة الكيميائية، وغيرها من جرائم الحرب الممنهجة والموثقة جيداً، وإذا ما انتهى الصراع في سوريا بالعودة إلى ما قبل 2011، بحكم ذات النظام للبلد بأكمله وإلى أجل غير مسمى، فإن معظم أولئك الذين فروا من المحتمل لن يعودوا مطلقاً.
علي بحر (29 عاما) هو أحد أولئك السوريين، قبل أن تأتي الحرب بأهوالها إلى مسقط رأسه في الرقة، كان مدرّساً للغة العربية: "لقد كنا نعيش في قرية خارج المدينة ولم نفكر مطلقاً بالتخلي عن وطننا"، كذلك أخبرني عندما التقينا في منطقة صناعية في العاصمة التركية أنقرة، مضيفاً "ولكنني وزوجتي قررنا المغادرة مرغمين عندما باتت التفجيرات قريبة جداً منا ومخيفة للغاية".
اليوم، فإن علي يعمل كعامل يدوي، عندما تحدثنا كان في استراحة حيث كان يعمل 12 ساعة في اليوم من خلال تجميع أنظمة التدفئة الحرارية في مستودع، يلاحظ المرء بأن علي لا يزال يحمل السلوك المتميز ذاته لمعلمين الأدب، منذ فراره إلى تركيا سقطت قريته تحت سيطرة متشددي تنظيم الدولة، "إذا ما خرج التنظيم من بيوتنا سنعود فورا" كذلك قال لي، قبل أن يضيف: "ولكن فقط إذا ما ذهب النظام أيضاً، فهو السبب الأول لإرهاب الناس وخلق هذه الكارثة".
وفي جميع أنحاء العالم، باتت تعتبر أزمة اللاجئين السوريين أزمة متصاعدة، إنها الأزمة التي أعاقت القادة السياسيين في البلدان المستقبلة، ومعظمهم قد رفضوا استيعاب أعداد كبيرة من اللاجئين، إلى حد أن القوى الخارجية فكرت في التدخل العسكري ضد نظام الأسد لذلك الأمر، إنهم على حق حين استنتجوا أنه من المرجح لوجوده أن يولّد المزيد من البؤس والنزوح وليس أقل من ذلك، ولكن لا بد من حل مشكلة اللاجئين لا محالة في المستقبل السياسي لسوريا، ومن أجل عودة مواطنيها، فإن سوريا بحاجة إلى أن تكون ليس فقط مستقرة فحسب، ولكن آمنة أيضاً.
"إن السوريين يرغبون بشدة في العودة إلى بلداتهم ومدنهم، انهم يريدون فرصة لإعادة بناء حياتهم"، كذلك قالت لينا العطار، من مؤسسة كرم -المؤسسة الخيرية التي تخدم اللاجئين السوريين في تركيا والأردن ولبنان، مضيفة: "إنهم يريدون أن يعيشوا بسلام في سوريا خالية من الخوف والتعذيب، والاضطهاد، إن كل لاجئ سوري أعرفه بات في أقسى الظروف خارج منزله وبلاده، ولكن الهجمات الحكومية ضد المدنيين فرّغت البلاد من أهلها".
ولكنها أضافت بأن معظم أولئك اللاجئين لن يعودوا أبداً إلى بلدهم طالما استمر نظام الأسد في حكم البلاد: "لن يكون لسوريا مستقبل حقيقي كبلد مسالم وآمن ومزدهر مع وجود الأسد في السلطة".
إن حجة نظام الأسد التي لا غنى له عنها ترتكز إلى حد كبير على خوف الغرب من ذلك الذي من شأنه أن يسد فراغ غياب النظام، فقد أدى الانهيار الجزئي لسلطة الدولة في العراق لخلق التنظيمات المتشددة، وفي حين تمت رؤية الأسد على نطاق واسع على أنه "شخص سيء"، كما اعترف الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، لا يزال البعض ينظرون إليه باعتباره قوة للاستقرار والاستمرارية في منطقة غير مستقرة.
إن هذه الفكرة مجرد أسطورة، فبعد خمس سنوات من الاضطراب، باتت خدمات الدولة غير موجودة إلا نظرياً في كثير من أرجاء سوريا، في حين أن الخدمات الأساسية باتت محدودة جداً وتعتمد على الدعم الدولي، و "غالبية السوريين، سواء أولئك الموجودين في مناطق سيطرة النظام أو المعارضة انغمسوا في الاقتصاد غير الرسمي"، وفقاً لتحليل اقتصادي لآثار الحرب المنشور عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط، فقد لعبت العقوبات الاقتصادية الواسعة التي استهدفت الاقتصاد السوري دوراً كبيراً في هذا الانخفاض.
كما ان العديد من مؤسسات نظام الأسد قد قلصت عمّا كانت عليه سابقاً، مع موجات من الانشقاقات، الفرار، والقتل مما ترك المؤسسات الكبرى مثل الجيش في حالة متقدمة من التحلل، ويعتمد نظام الأسد الآن في جزء كبير على مزيج من القوات شبه العسكرية المحلية والقوات المسلحة الأجنبية -الروس والإيرانيين والميليشيات الطائفية الأجنبية- للحفاظ على ادعاء السيادة على البلاد، والهجوم المستمر لاستعادة السيطرة على مدينة حلب الآن، يرجع إلى حد كبير إلى دعم متطوعي الميليشيات الشيعية من العراق ولبنان، فضلاً عن الدعم الجوي الروسي.
ويخضع الكثيرون في سوريا الآن لشبكات إقطاعية صغيرة، والتي غالباً ما تكون مرتبطة مع النظام المركزي، في حين أن هناك عدد كبير من السوريين لا يزالون يقاتلون لصالح النظام مرغمين على فعل ذلك انطلاقاً من الحاجة الاقتصادية أو الإكراه والتهديد، وهكذا فعندما يعلن نظام الأسد بجرأة نواياه لاستعادة جميع الأراضي الواقعة تحت سيطرة المعارضة، فإنه يعلن منطقياً بأن الأجانب سيقومون "باستعادة" الأراضي السورية، لأنه ببساطة لا يوجد ما يكفي السوريون الذين هم على استعداد لإجراء مثل تلك المهمة.
وفي الوقت نفسه، فإن العديد من أولئك الذين شكلوا المؤسسات الوطنية الكبرى قبل الحرب الكبرى أصبحوا بأنفسهم جزءاً من الشتات الواسع للاجئين، ياسين شمّوس كان أحد ضباط الشرطة العسكرية الذين اختاروا الرحيل بدلاً من الاستمرار في العمل في المؤسسة التي كانت قد أُمِرَت بقمع المحتجين، ياسين من مدينة حلب قال بأنه انشق في عام 2012، وعبر الحدود إلى تركيا في وقت لاحق من ذلك العام، يقوم الآن بتأمين لقمة عيشه كسائق سيارة أجرة لتقديم الطعام للاجئين السوريين في أنقرة.
"معظم الضباط ذوي الرتب في قوى الأمن كانوا من العلويين" كذلك أخبرني عندما التقينا في ضاحية مدينة أنقرة -أوندر، والتي أصبحت واحدة من العديد من مراكز للاجئين الذين يعيشون في المدينة، مثل كثيرين آخرين فقد شعر شمّوس بضغوط البيروقراطية الحاكمة التي حافظت على قوتها من خلال التلاعب بالانقسامات الطائفية، إذ أخبرني قائلاً: "عندما بدأت الثورة، أخذوا بنادق الضباط السنة لأنهم لا يثقون بنا، لقد تركت وظيفتي وتواريت عن الأنظار قبل أن أنشقّ في عام 2012، لأنني لا أريد أن أكون جزءاً من الجيش الذي يطلق النار على شعبه، يطلق النار على الطلاب والشباب المحتجين".
ولأنه قرر الانشقاق عن عمله في جهاز الأمن، أصبح شمّوس رجلاً مطلوباً لدى نظام الأسد، كالعديد من اللاجئين الآخرين وقال بأنه بات يواجه الآن احتمال النفي من وطنه إلى الأبد، أو لطالما بقيت حكومة الأسد في السلطة، إنه يفقد الأمل بشكل متزايد في إيجاد حل للنزاع من شأنه أن يسمح له بالعودة إلى حلب، فقد أخبرني: "إن ما كنا نخشاه، تلك النتيجة التي كنا نحاول تجنبها عندما بدأ كل هذا، قد حدثت بالفعل".
وحوالي 20 دقيقة من القيادة من الحدود السورية، على مشارف بلدة نزب التركية، أكثر من 5000 لاجئ سوري يعيشون في عزلة، في مخيم مسيّج للاجئين، يمثّل سكان المخيم الكثير من التنوع السوري، أولئك اللاجئون الذين جاءوا من بلدات ومدن مختلفة كدمشق وحمص ودير الزور.
وفي ضوء الشمس الساطعة، لا شيء سوى التلال الصحراوية الجرداء المحيطة بالمخيم، يلعب الأطفال بين وحدات التخزين المحوّلة والتي باتت الآن منازل أسرهم، وفصولهم الدراسية المؤقتة، يرسمون صوراً من الذاكرة لبيوتهم السابقة ومساجد وأحياء سوريا، بيّنما زين الكثيرون صورهم بعلم الثورة ذو الثلاثة نجوم كأبناء الشتات الفلسطيني، بحنين كبير إلى الوطن الذي قد لا يعودون إليه أبداً.
لقد قام الملايين من السوريين بالخيار المؤلم لترك سوريا والبحث عن ملجأ في مخيمات اللاجئين، في الضواحي الفقيرة من المدن التركية، أو الدول الغربية غير المرحبة بهم على نحو متزايد، ولكن توق السوريين للعودة إلى وطنهم لا ينبغي الاستهانة به.
وعلى الرغم من اليأس البادي للوضع في داخل سوريا، فإن الخطوط العريضة للحل الإنساني واضحة، جرابلس هي أحد الأمثلة: إضفاء للطابع الرسمي الواقعي لمنطقة آمنة في المنطقة الشمالية من البلاد، خالية من كل من النظام وتنظيم الدولة، سيتمكن المزيد من الناس للذهاب إلى البلدات والمدن التي تركوها وراءهم، أو حتى إلى مجمعات سكنية جديدة في تلك المناطق السورية الآمنة قام البعض باقتراح إعادة بنائها للسوريين الذين يعيشون الآن في مخيمات تركيا.
ولإيجاد مثل هذه المناطق، سيكون على القوى الخارجية الإصرار على فرض الحل السياسي الذي يمنع نظام الأسد من اتخاذ أي خطوات لاستعادة السيطرة على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المتبقية في البلاد، كما أن ذلك يعني أيضاً الضغط على الأسد لمغادرة السلطة، و تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وسوريا يعتمد على تغيير سياسي حقيقي.
والأهم من ذلك، فإن تلك الخطوات تعني التخلص من الفكرة السيئة بقبول نظام الأسد الذي اضمحلّ مؤسسياً، وتلطخ بجرائمه، وبات يعتمد على الداعمين الخارجيين، في مقابلة أجريت معه مؤخراً، اقترح الأسد أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يمكن أن يكون "حليفاً طبيعياً" لنظامه، في حين أن داعمي نظام الأسد في روسيا صرحوا أيضاً بأنهم يأملون في توحيد قواهم مع ترامب لمحاربة "الإرهاب والتطرف"، ولكن يجب أخذ العلم بأن النصر العسكري التام للأسد لن يؤدي سوى إلى تغذية ظهور الإرهاب العالمي.
ويبقى من غير الواضح كيفية استجابة إدارة ترامب لهذه المناشدات، ولكن إذا ما قبل ترامب بشروط الأسد لإنهاء الحرب، واستعاد النظام المجرم السلطة على كل سوريا، فإن مأساة أولئك الذين فرّوا من جحيم البلاد، فضلاً عن الأزمة السياسية العالمية التي أثيرت في جزء من خروجهم، من المرجح لها أن تتفاقم وتستمر.
يقول الدكتور زاهر سحلول -مستشار الجمعية الطبية السورية الأمريكية بأن تجربته في الخطوط الأمامية قد أقنعته بأن الأزمة لن تنتهي إلا برحيل الأسد من البلاد، إذ يقول: "إذا ما اعتقدت الحكومات الغربية بأن التوصل إلى اتفاق من شأنه أن يبقي على الأسد في السلطة سيحلّ من أزمة اللاجئين، فإنهم يعيشون في حلم، إن هذا هو النظام الذي ارتكب جريمة حرب تلو أخرى في السنوات الخمس الماضية، وهو المسؤول عن مقتل مئات الآلاف من مواطنيه، ولم يعد هذا النظام شرعياً ولا موثوقاً من قبل أيّ سوري"، قبل أن يضيف الدكتور سحلول: "بوجود الأسد في السلطة، لن يعود أي أحد".