فورين بوليسي – (ترجمة بلدي نيوز)
إن الرواية القائمة للحرب السورية بأن هناك نزاع مروع بين مجموعتين من المتطرفين المتعصبين: الجهاديون السنة على أحد الجانبين، والجنود الموالون لنظام الأسد من جهة أخرى، ولكن الواقع على الأرض مختلف جداً، إذ أن العديد من المجندين السوريين يرغبون في تجنب الخدمة في الجيش، لكن ولأسباب مختلفة، غير قادرون على القيام بذلك، إن وجودهم في صفوف النظام لا يعني بالضرورة أنهم يقومون بدعمه.
إن هذا الوضع يمثل فرصة ضائعة، ففي حين يطالب المحللون الغربيون مراراً وتكراراً بتسليح المعارضة وإقامة مناطق حظر طيران، لم يكن هناك تركيز على الإطلاق على تقديم حوافز بإمكانها تشجيع الانشقاقات في صفوف القوات الحكومية والميليشيات الموالية للحكومة، انشقاقات كتلك إذا ما كانت كبيرة بما فيه الكفاية، من شأنها أن تضعف النظام بشكل كبير وجعله أكثر قابلية للانصياع للمفاوضات.
إن الخدمة العسكرية إلزامية في سوريا على جميع الرجال البالغين من العمر 18 عاماً، مع السماح بالتأجيل للراغبين بإكمال دراستهم الجامعية، حيث تتم الخدمة بعد انتهاء تلك الدراسات، بالإضافة للابن البكر لأب متوفي، ووفقاً لمنظمة العفو الدولية فإن السوريين الذين يتخلفون عن التجنيد يلاقون عقوبة تصل إلى 15 عاماً في السجن، على الرغم من أنهم غالباً ما يعفى عنهم ليرسلوا لمرة أخرى إلى الثكنات العسكرية، ونتيجة لذلك فإن هناك قصص لا تعد ولا تحصى لشبان تم تجنيدهم قسراً على الرغم من معارضتهم للنظام، في حين انضم آخرون لقوى الميليشيات لأسباب اقتصادية بحتة.
أحمد الذي قتل في وقت سابق، طالب الهندسة المدنية من اللاذقية، انضم لأحد هذه الفئات، في الوقت الذي بدأت فيه الثورة الشعبية ضد حكم الأسد في عام 2011، عندما كان يشاهد أشرطة الفيديو لتلك الاحتجاجات على شبكة الانترنت، أملاً أن يستطيع الانضمام إليهم في يوم ما، ولكن والدته قد توفيت أثناء ولادته، في حين كان والده رجلاً مقعداً، حيث كانت العائلة فقيرة جداً لدرجة أن أحمد لم يستطع تحمل نفقات تذكرة الحافلة للذهاب إلى الحرم الجامعي كل صباح، في عام 2012 تخلى عن دراسته وانضم إلى صقور الصحراء، ميليشيا موالية للنظام والتي منحته 125 $ شهرياً لتغطية رسوم التعليم الجامعي لشقيقته وأدوية والده.
وعندما يُخيّر السوريون، فإنهم يميلون للتطوع لتلك الجماعات شبه العسكرية (الممولة في كثير من الأحيان بتمويل من قبل أشخاص أثرياء) بدلا من الانضمام إلى الجيش، لأن الأجور لا تقل عن الضعف في حين يسمح لهم عموماً بالخدمة بالقرب من منازلهم، ولم يكن أحمد محظوظاً حينها كي يبقى في اللاذقية، فقد قُتِل الشاب بالقرب من مدينة تدمر في وقت سابق من هذا العام، مدافعاً عن نظام كان يكرهه!
إن التهرب من التجنيد ممارسة شائعة لكثير من الشباب السوريين الذين لا يتوقون للموت من أجل النظام، وحتى عندما يتعارضون مع الطابع الإسلامي المهيمن على جزء كبير من المعارضة، فيعيشون مختبئين عن الأنظار في أحيائهم لسنوات، متهربين من الدوريات العسكرية، بينما يفضل آخرون الفرار إلى الريف، بعيداً عن "الحواجز الطيارة".
أيمن، والذي ينحدر من قرية ساحلية علوية، حصل على درجة البكالوريوس في عام 2011، لكنه تمكن بطريقة ما من تجنب التجنيد العسكري لمدة عامين آخرين، وحين اندلعت الثورة قام برسم شعارات ثورية على الجدران في القرى المحلية بينما كان يعمل في مزرعة الزيتون والتبغ التي تملكها عائلته، ولكن في أبريل 2013 نفد من الخيارات، وقام الجيش بسحبه، ولكونه شاب ريفي فقير، فقد كان عاجزاً على الهرب إلى أوروبا، أو رشوة مسؤول لحذف اسمه من القائمة الاحتياطية، أو حتى لدفع 300 $ للحصول على تأجيل لمدة ستة أشهر، إن تلك الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين أولئك الذين يمكن تجنب الخدمة وأولئك الذين لا يستطيعون، سمة واضحة في شوارع مدينة طرطوس الساحلية، حيث ملصقات "القتلى" في الشوارع تنتشر في كل مكان، السمة المفقودة بشكل واضح في الأحياء الأكثر ثراء.
إن قصة أيمن، أيضا كانت من إحدى تلك القصص الحزينة، لمدة ثلاث سنوات، حيث تدهورت صحته العقلية حين خدم قسراً في جيش لا يؤيده، وفي النهاية قتل أيمن في معركة حلب في أغسطس/آب الماضي في معركة زجّه فيها النظام لحصار وقتل أبناء شعبه الذين يؤيد قضيتهم، تلك القصة هي إحدى القصص التي لا تعد ولا تحصى للشباب السوريين الذين لاقوا حتفهم في ذلك التجنيد القسري.
عامر سليمان من بستان الهمام -قرية جبلية تقع بالقرب من ميناء بانياس، كان يحلم أن يصبح عازف غيتار، ولكن الحياة كانت تخبئ له خططاً أخرى: فقد أُجبر على إيقاف دراسته الموسيقية، قبل أن يُزجّ به في الجيش في عام 2011، و تم إرسال سليمان إلى حي القصير التي تسيطر عليه المعارضة، والواقعة شمال مدينة حمص، ولكنه حرص على إطلاق النار في الهواء كلما كان من المفترض له ان يطلق النار من سلاحه، لقد اعتقد قادته بأنه يعاني من اضطراب عقلي قبل أن يتمّ نقله إلى المكاتب الإدارية.
و تمّ منح سليمان تسريحاً وجيزاً في عام 2012، حيث عاد إلى بانياس وبدأ بتدريس دروس الغيتار، لكنه لم يستمر بذلك طويلاً، إذ سرعان ما تم استدعاؤه وإرساله ليزجّ به في القصير لمرة أخرى، في مايو 2013 عندما سمع بالمذبحة التي ارتكبها جيش النظام والميليشيات المتحالفة معه في منطقة البيضا، تواصل سليمان مع عائلته للتبرع ببعض من ملابسه ومدخراته للنازحين، في وقت لاحق قتل سليمان حين كان في موقع جيش النظام حيث أطلقت قذيفة هاون على المكان.
ومن الضروري ذكره... بأنه ليس كل أولئك المقاتلين التابعين لجيش النظام قد تم تجنيدهم بالإكراه، إن الجيش والميليشيات الموالية للنظام لديهم العديد من الجنود الموالين، بالإضافة إلى رجال العصابات والمجرمين الذين تمكنوا من تجميع الثروة والسرقة وتمكين أنفسهم على مدى خمس سنوات من الصراع، ولكن من المهم تسليط الضوء على انتشار حالات التجنيد القسري والخيارات المحدودة المتاحة لأولئك المجبرين على ذلك الأمر، لأنها توفر وسيلة ضغط قوية لم يحاول العالم الخارجي بعد تنفيذها.
إن القوى الإقليمية والدولية التي تدعي اهتمامها في حل الصراع بالإضافة إلى المنظمات غير الحكومية الدولية العديدة التي تعمل في المنطقة، ينبغي عليها أن تستهدف الشباب السوري مثل أحمد، أيمن، وعامر ببرامج المساعدة النفسية والمالية في مناطق سوريا التي يسيطر عليها النظام، ومن الطبيعي أن يتم ذلك سراً.
ولعدة أسباب أيديولوجية وسياسية وطائفية، فإن العديد من أولئك المتهربين من الخدمة الإلزامية والمجندين المترددين لن يقوموا أبداً بالانضمام إلى المعارضة المسلحة، ولكن توفير المساعدة المالية لهم، وإذا لزم الأمر توفير ممر آمن للفرار من البلاد، من شأنه أن يسمح لهم بالنجاة من التجنيد الإجباري في المقام الأول، واستنزاف صفوف الراغبين للموت من أجل الأسد.
ولكن الأمر لا يتوقف فقط على مسألة الدعم المالي أو حتى اللوجستي، إن الوعي الدولي الأكبر نحو محنة المجندين المُرغمين في سوريا يمكن أن يسهم في الضغط المنظّم على المؤسسات العسكرية للنظام السوري، تماماً كما في حالة المستنكفين ضميريا (sarvanim) في إسرائيل، حيث كانت هناك العديد من حالات الرفض المنظم للخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي، وخاصة بين جنود الاحتياط، كما طالب المعنيون بشؤون الجماعة الناشطة (sarvanim) المحاكم البريطانية لإصدار مذكرات اعتقال ضد مجرمي الحرب في جيش الدفاع الإسرائيلي، وقدمت أيضاً دعماً مالياً لأسر الرافضين المسجونين، بحيث أصبحت مقاومتهم مسألة نقاش عام وليس فقط في إسرائيل بل أيضاً على الصعيد الدولي، في سوريا من ناحية أخرى، فإن أولئك الذين يترددون في الخدمة خائفون حتى في مشاركة أسمائهم.
إن الجيش الذي بلغ تعداده في الأصل ما يقارب من 300،000 رجل، خسر ما يقدر بـ 20،000 إلى 100،000 جندي منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، وعلى الرغم من أن أقلية قليلة فقط كانت قد انشقت لتنضم في وقت لاحق إلى قوات المعارضة، لم تؤد تلك الانشقاقات الى انهيار النظام لأنها كانت مقتصرة على الحالات الفردية بدلاً من الانقسامات الكبيرة، في حين جادل البعض بأن هذه الانشقاقات أبقت جيش النظام مع قوات أكثر التزاماً، فإن الأمثلة التي استشهدت بها بالإضافة للكثير التي لم يسعني ذكرها تشير تماماً إلى خلاف ذلك.
إن الدعم العسكري الروسي المباشر لنظام الأسد والذي بدأ قبل عام، عزّز من يد الدكتاتور الباطشة لدرجة بات فيها بأنه لا يشعر بأي حاجة لقبول أي تسويات أو مشاركة جادّة في محادثات السلام، ولكن إذا ما بدأ جزء كبير من جيشه بالاختفاء، فإن ذلك النظام الوحشي في سوريا قد يعيد النظر في احتمالاته لتحقيق النصر.
-أندريا غيلوتي: صحفية مستقلة تجيد اللغة العربية مستقلة، محررة ومستشارة البحوث في ملفات الشرق الأوسط.