التصعيد شرق الفرات: تداعياته الإقليمية وآفاقه الدولية - It's Over 9000!

التصعيد شرق الفرات: تداعياته الإقليمية وآفاقه الدولية

تركي المصطفى

تتناول هذه الورقة تحليل سياقات التصعيد الإيراني في منطقة شرق الفرات تجاه الولايات المتحدة، مسلطةً الضوء على التداعيات السياسية، العسكرية، والأمنية الناتجة عن هذا التصعيد. كما تستعرض الورقة حدود الاستجابة الأميركية، بما في ذلك الإجراءات التي اتخذتها واشنطن حتى الآن، وما قد يحدث في المستقبل من ردود فعل متوقعة.
منذ بداية أغسطس 2024، شهدت منطقة شرق الفرات تصعيدًا مفاجئًا من جانب الميليشيات الإيرانية تجاه الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. هذا التصعيد برز كواحد من أهم الأحداث التي أثرت في التوازنات القائمة بين الميليشيات المحلية المدعومة من إيران وقوات سوريا الديمقراطية. وخاصة في ظل التصعيد الإعلامي المستمر من قبل إيران وميليشياتها تجاه الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة. وترتبط هذه التوترات بشكل وثيق بالتحركات الميدانية للميليشيات المحلية الموالية لإيران في جغرافيا شرق الفرات، الغنية بالموارد الطبيعية، والتي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. حيث أن السيطرة على هذه المنطقة من شأنها أن تمنح هذه الميليشيات نفوذاً أكبر يمكن استخدامه كورقة ضغط في التفاوض على الساحة الإقليمية، وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى التدخل الإيراني شرق الفرات على أنه جزء من استراتيجية أوسع لتعزيز موقف طهران في المنطقة، ومن اللافت أن السياسة الإقصائية التي تتبعها قوات "قسد" في المنطقة أثارت استياء السكان المحليين، وخاصة العشائر التي تشكل نسيج المجتمع في تلك المناطق. وأدت إلى تأجيج الروح العشائرية، والتي استغلتها الميليشيات الموالية لإيران لتعزيز وجودها ونفوذها. كما أن تدهور الأوضاع الاقتصادية والعبث بمجال التعليم والصحة، بالإضافة إلى التضييق على الحريات العامة، ساهم في خلق بيئة مشحونة بالاستياء والغضب، مما يجعل المنطقة أكثر عرضة للتدخلات الخارجية واستغلال الميليشيات الإيرانية للوضع المتأزم. ولا يمكن فصل التطورات في شرق الفرات عن السياق الإقليمي الأوسع، حيث إن تعزيز النفوذ الإيراني في سوريا يتماشى مع محاولات طهران حفاظها على الممر البري الذي يصلها بميليشياتها في المنطقة. غير أن التواجد العسكري للتحالف الدولي في المنطقة يمثل عائقاً أمام استقرار تحقيق أهداف إيران.
 على الصعيد الإقليمي والدولي، يبرز الموقف الروسي، بوصفه متغيرًا سياسيًّا وثيق الصلة بتصعيد الميليشيات الموالية لإيران شرق الفرات. حيث تسعى موسكو للحفاظ على استقرار نظام الأسد وتجنب أي تصعيد قد يهدد هذا الاستقرار، خاصة في مناطق غنية بالموارد مثل شرق الفرات. مع ذلك، فإن التحركات الإيرانية في المنطقة تضيف تعقيدات جديدة، إذ تجد روسيا نفسها في موقف حساس بين دعمها لنظام الأسد من جهة، ومحاولة توازن علاقاتها مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة أخرى.
في هذا السياق، أبدى قائد القوات الروسية في سوريا، الفريق سيرغي كيسيل، اهتمامًا بالغًا بالتوصل إلى حلول لوقف التصعيد في منطقة شرق الفرات، وقد أجرى مباحثات مطولة في القاعدة الروسية داخل مطار القامشلي لإنهاء حصار "قسد" للمربعات الأمنية التابعة لنظام الأسد داخل مدينتي الحسكة والقامشلي، ووقف التصعيد في دير الزور.
تدرك موسكو أن التحركات الإيرانية شرق الفرات تهدف إلى تعزيز نفوذ طهران في سوريا على حساب القوى المحلية والدولية المتواجدة هناك، وخاصة الولايات المتحدة وحلفائها. ورغم التعاون بين روسيا وإيران في دعم نظام الأسد، إلا أن مصالحهما ليست دائماً متوافقة. تسعى موسكو إلى الحفاظ على استقرار المنطقة بما يخدم أهدافها الاستراتيجية، وتجنب الدخول في مواجهة مباشرة مع واشنطن، التي ترتبط معها بعلاقات عسكرية خاصة في سوريا. وفي ضوء هذه الديناميات المعقدة، قد تجد موسكو نفسها في موقف صعب إذا ما تزايدت حدة الصراع شرق الفرات، مما يجعل الموقف الروسي أحد المتغيرات الأكثر تأثيرًا في المستقبل القريب.
في إطار سياسي حاكم لمعظم ما سبق، تحرص الولايات المتحدة على التعامل مع الميليشيات الإيرانية في شرق الفرات بشيء من الصبر الإستراتيجي، بناء على مجموعة من حساباتها الإقليمية تجاه الحلفاء والخصوم والمنافسين الدوليين، مثل روسيا، والجماعات الموصوفة بالإرهاب خاصة داعش. بالإضافة إلى ذلك، تأخذ إدارة الرئيس جو بايدن في اعتبارها بؤر العنف المشتعلة في أوكرانيا وغزَّة، إلى جانب الاستعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة في أواخر عام 2024، التي أعلن انسحابه من السباق الرئاسي، وترشيح نائبته كامالا هاريس.
الواضح أنَّ إيران تدرك أبعاد ما يجري شرق الفرات، لكنها تعمل لحساب اللحظة، ولعلَّ قيام إدارة بايدن بالمفاوضات السرية معهم، أقوى ما يمكن الأخذ به في تفسير الموقف الأميركي الراهن منهم، وتفسير موقف إيران، نفسها، من الولايات المتحدة؛ إذ أنها تناور بمختلف القضايا المحلية والإقليمية، ولكن في حدود ما تتيحه لهم الفرص، ودُون المساس بجوهر المصالح الإستراتيجية الأميركية. وفي الأخير، نجد أنَّ محصلة عدائهم للولايات المتحدة، خلال فترة هجماتهم على شرق الفرات إثر استهدافهم القاعدة الأميركية في حقل كونيكو للغاز، تساوي (صفرًا) خسارة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. ورغم تصاعد هجمات الميليشيات الموالية لإيران باتجاه مناطق نفوذ "قسد"، إلا أنَّ الولايات المتحدة لم تقُم بأي عمل عسكري تردُّ به على ميليشيات إيران، واكتفت بما قامت به قوات قسد من هجمات موجعة في منطقة نفوذ إيران غرب الفرات وعلى مقربة من ممرها البري الذي تسعى طهران لتعزيزه.
رغم الهدوء النسبي لا يزال التصعيد شرق الفرات، باعثًا للقلق، وقد تناولت الورقة هذا التصعيد من زواياه المختلفة، موضحة أن العوامل الداخلية كانت الدافع الأقوى بين مجموعة من العوامل الأخرى. ويشير توقف الاشتباكات إلى فقدان الميليشيات الموالية لإيران الزخم الذي كانت تسعى إليه في الجغرافيا الغنية بالنفط والثروات الطبيعية. ومع ذلك، فإن التهديدات الداخلية التي تواجه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ما زالت تتصاعد، فالضغط الداخلي سواء من العشائر أو من المجموعات المحلية الأخرى، لا يزال يشكل تهديدًا كبيرًا وقد يؤدي إلى انفجار الأوضاع في أي وقت. ومع ذلك فإن مستقبل شرق الفرات قد تسيطر عليه الترتيبات الأمنية ويتراجع التصعيد إلى العدم، ولكن ذلك كله مرهون بما يجري من تطورات إقليمية، خاصة في العلاقة المتوترة بين إسرائيل وإيران.











مقالات ذات صلة