بحث

من فشل الطائرات المسيرة إلى انهيار النصاب في البرلمان.. هزيمة إيران الصامتة في العراق

تركي المصطفى

"بينما كان دخان الغارات الأخيرة لا يزال يتصاعد من سماء طهران (12-24 يوليو 2025)، كانت عيون المنطقة شاخصة إلى العراق، تنتظر انفجارا مدويا من الميليشيات المسلحة المدعومة من طهران. حيث توقعت واشنطن عاصفة صواريخ من حلفاء إيران في العراق. لكن المفاجأة كانت في "الصمت المريب" للميليشيات الولائية الكبرى والصغرى، ويبدو أن آلة الحرب الإيرانية في العراق، التي هزت المنطقة من قبل، تحركت هذه المرة كساعة معطوبة. هجمات متفرقة بلا توقيع، وضغوط سياسية بلا أسنان، وحكومة عراقية تمشي على حبل مشدود بين واشنطن وطهران ببرودة أعصاب لا تُعهد. والسؤال الذي يفرض نفسه على المشهد: هل نحن أمام بداية انحسار النفوذ الإيراني في أرض الرافدين؟

طائرات بلا طيّار.. وميليشيات بلا قيادة 

بين 12 و24 يونيو، انطلقت طائرات مسيرة شبحية من أراضٍ عراقية لتصيب مواقع أمريكية في أربيل وبغداد وعين الأسد. لكن اللافت كان الصمت المطبق. لا بيان مسؤولية، ولا خطاب نصر، ولا تهديدات متصاعدة. ومصادر الاستخبارات الأمريكية نفسها وقفت حائرة: هل هذه هجمات منفلتة من مقاتلين صغار تعطشوا للثأر؟ أم أنها حركة مقصودة بلا توقيع لتجنب العواقب؟ 

المقارنة مع رد الفعل بعد هجوم أكتوبر 2023 تكشف الانزياح. يومها، كانت الضربات الميليشياوية كالسيل الجارف، مصحوبة بآلة دعائية صاخبة وتهديدات علنية. واليوم، حتى "حزب الله النجباء" و"منظمة بدر" - وهما ذراعا إيران الطولى - اكتفيا بإدانة الضربات على إيران من وراء حجاب. كأنما فقدت القيادات الخيط الذي يربط بين البندقية والكلمة.

البرلمان.. مسرح الظل الخاوي 

في 17 يونيو، حاول الإطار التنسيقي الشيعي (قلب إيران النابض في البرلمان) تحويل القاعة إلى منصة حرب. ودعوا إلى جلسة استثنائية "لتقييد المجال الجوي العراقي أمام أمريكا وإسرائيل". لكن المحصلة كانت مهزلة: 140 نائباً فقط من أصل 329 حضروا - أقل من النصاب المطلوب بـ 80 مقعدا. حتى خطاب التضامن مع إيران أُلقِي في جلسة "تشاورية" بلا صلاحيات. والأكثر دلالة، هو تحول المطلب الأساسي إلى حلول مستقبلية واهية: "شراء أنظمة دفاع جوي روسية"، أو "تطوير قدرات الدفاع الجوي"، وكأنما يطلبون من غريق شراء مظلة نجاة بعد غرق السفينة. أما دعوة "حزب الله النجباء" لفرض "منطقة حظر طيران" لقوات الحشد الشعبي - فهي أقرب إلى خيال سينمائي في دولة لم تسيطر حتى على سماء مطاراتها.

السوداني.. مشية الأفعى على الصخور 

وسط هذا الضجيج، تحرك رئيس الوزراء محمد شياع السوداني كلاعب شطرنج محترف. في 25-26 يونيو، وكان مستشاره الأمني ووزير داخليته يجلسان مع قائد بعثة الناتو، اللواء كريستوف هينتزي، لتعزيز "الشراكة طويلة الأمد". وفي اليوم ذاته، وقّعت وزارة دفاعه عقدا مع شركة أمريكية لصيانة طائرات F-16 العراقية - تلك التي دمرتها ميليشيات إيران سابقا. ولم يكن هذا صدفة. فالسوداني يعرف أن معادلته تقوم على ركيزتين: 

1. بقاء الدعم الغربي لمكافحة داعش (الذي لا تزال خلاياه تنفذ هجمات كمحاولة قاعدة K1 في 30 يونيو). 

2. تفادي مواجهة مفتوحة مع الميليشيات المدعومة من إيران. 

الشقاق.. عندما ينكسر ظهر الحلف 

أبلغ إشارات الانهيار جاءت من حيث لا يتوقع أحد: "المحكمة الاتحادية العليا". في 19 يونيو، قدم 9 قضاة من أصل 13 استقالتهم احتجاجا على "تدخلات" رئيس المحكمة جاسم عبود (المقرب من نوري المالكي وإيران). حيث أن الأزمة كشفت انقساماً دستورياً نادرا: مجلس القضاء الأعلى يرفض أحكام المحكمة، ورئيسها يتهم بتمزيق استقلال القضاء. والسوداني، بدهاء، استغل الفرصة: حيث رفض مناقشة الأزمة مع عبود، ورشح بديلا مستقلا (إبراهيم حسين) وعندما قدم الأخير استقالته المفاجئة يوم 23 يونيو. كانت الرسالة واضحة: حتى الحصون القضائية الإيرانية لم تعد منيعة.

الخاتمة 

اليوم، تقف بغداد على مفترق لم تعرفه منذ الغزو الأميركي وسقوط نظام الرئيس صدام حسين. ذلك أن الفصائل المدعومة من إيران، التي جعلت من العراق ساحة انتقام لسنوات، وجدت نفسها في مأزق وجودي: 

- عسكريا: هجماتها المشتتة كشفت إما انهيار الانضباط أو خوف القيادات من مواجهة شاملة. 

- سياسيا: فشلوا في تحويل البرلمان إلى سلاح، وباتت انتخابات نوفمبر 2025 تهددهم بتقارير تزوير علنية. 

- شعبيا: التظاهرات الموالية لإيران (كمظاهرة 21 يونيو) بدت كشبح الماضي - خالية من الزخم. 

لكن الحكاية لم تنتهِ. فأمريكا تعرف أن "الهزيمة التكتيكية" لإيران في هذه الجولة لا تعني انسحابا. والسوداني يدرك أن سكين التوازن الذي يمشي عليه قد يقطع قدميه بين عشية وضحاها. والباب الوحيد الذي فُتح هنا هو باب السؤال الأكبر: هل بدأ العراق يستعيد نفسه من قبضة المحاور؟ التاريخ لا يجيب إلا متأخرا، لكن رياح يوليو 2025 حملت أولى أنفاس الانعتاق من الهيمنة الإيرانية. 

 

مقالات متعلقة