بلدي نيوز
إنورا شام اسم مستعار لضابطة مخابرات فرنسية، لم تسع إلى كسر السر لتصفية بعض الحسابات، ولكنها اختارت أن تتحدث في كتاب عن مهمة لبضعة أشهر قامت بها في سوريا قبل 10 سنوات شهدت خلالها ما سمته نشوب الحرب الأهلية السورية، ولم يسلم من سهامها أي طرف، لا النظام ولا المعارضة ولا حتى القوى العظمى.
بهذه المقدمة الموجزة اختصرت مجلة لوبوان (Le Point) الفرنسية استعراضا مطولا بقلم رومان غوبير لكتاب هذه الضابطة، أوضح في بدايته أن تقرير إنورا شام جاء بعد مهمة رسمية نفذت في إطار بعثة الأمم المتحدة للمراقبة في سوريا، وقد عادت إلى سوريا في مهمات أخرى لم يعرف أحد عنها شيئا بعد ذلك كما يقول رئيس الاستخبارات العسكرية الفرنسية الجنرال كريستوف غومار.
وبحسب لوبوان، فهذه الضابطة الفرنسية الناطقة بالعربية -التي نتابع تحقيقاتها في حلب وحمص ودمشق وفي جميع أنحاء سوريا كانت تعمل مراقبة لجمع الأدلة نيابة عن الأمم المتحدة حول انتهاكات النظام والمعارضة، لأن المعسكرين اتهم كل منهما الآخر بالأسوأ، ولذلك زارت السجون والمستشفيات، وجمعت بشكل سري بعض الشهادات، وطورت علاقات مع قادة الجيش السوري الحر ومع ممثلين عن النظام السو
وهكذا -يقول الكاتب- نلاقي في كتابها بعض الشخصيات الجديرة ببطولة رواية، مثل "الأمير الأحمر"، وهو قائد من قادة الجيش السوري الحر يبدو وكأنه يتحكم في كل الخيوط، ومثل متدرب شاب في مستشفى يعتقد من خلال شهادته لعملاء الأمم المتحدة أنه لا يزال بإمكانه تجنب الحرب الأهلية، إضافة إلى مدير سجن تجاوزته الأحداث تماما، ومسؤولين من الأمم المتحدة لم يعودوا يغادرون الفندق الذي يقيمون فيه، وآخرين على العكس من ذلك يخاطرون بحياتهم في محاولة لتجنب الأسوأ، وأخيرا محافظ إقليمي نصّبه الرئيس السوري بشار الأسد ولا يبدو أنه قلق على الإطلاق من الفوضى التي تعيشها بلاده.
ومع أن إنورا شام تحرص على إخفاء هوية مصادرها الذين اختفى العديد منهم خلال 10 سنوات من الحرب تتيح لنا هذه اليوميات الميدانية التي سجلتها أن ندرك عبر التفاصيل الدقيقة نقطة التحول أو اللحظة المأساوية التي تحولت فيها "الأزمة السورية" إلى حرب أهلية، خاصة أن هذه المهمة تبدأ بعد عام من انطلاق المظاهرات الشعبية الأولى، وبالتحديد في اللحظة التي رفض عندها بشار الأسد وأقاربه التنازل وضاعفوا القمع والاعتقالات الجماعية والتعذيب والاغتيالات، في حين أن الجيش السوري الحر في أقوى لحظاته يعتقد أنه يمكن أن يطيح بالنظام، وبالتالي أغلق كل من المعسكرين باب الحوار، في وقت لم يكن هناك لاعب غيرهما على الساحة، إذ كان دور روسيا وإيران إلى جانب النظام هامشيا، كما لم يكن هناك وجود لتنظيم "داعش" إلى جانب المعارضة وكان الجهاديون مهمشين، وفق لوبوان.
وتضيف الصحيفة أنه في هذه اليوميات تلفت الضابطة الانتباه إلى غرابة دور القوى الغربية التي تتفاوض مع معارضين سوريين في تركيا لا يمثلون سوى أنفسهم، في حين أن من يقاتلون بشار الأسد على الأرض يطلبون المساعدة من كل مكان، حتى "من الشيطان" كما يقول أحد قادة الجيش السوري الحر في ذلك الوقت، في إشارة إلى "القاعدة".
وفي الوقت نفسه، تروي إنورا شام كيف يرتكب النظام -دون إخفاء ذلك- قمعا داخل المستشفيات والثكنات والسجون، وكيف كانت آلته تهدف إلى ترويع السكان.
وتقول الضابطة إن جثة حيوان سُحق على الطريق أصبحت تشعرها بالتعاطف أكثر من أشلاء انتحاري متناثرة على مئات الأمتار، إلا أن عنصرا واحدا صدمها -كما تقول- وهو يدان مثبتتان بأصفاد في عجلة القيادة، متسائلة "منذ متى يحتاج الجهادي أو المقاتل المقتنع بما يقوم به إلى تقييد يديه مع عجلة القيادة؟
وفي مشفى حلب -الذي لا يزال تحت سيطرة الحكومة- تروي الضابطة كيف تقدمت مع أحد رفاقها متخفية عن عيون المخابرات، لتتحدث إلى متدرب شاب وصفته بأنه شجاع لأنه يحاول إنقاذ سكان حلب من خلال إبلاغ الأمم المتحدة عن خطورة المستشفى، إذ لا يأتي المدنيون الجرحى إلى المستشفى، لأن المخابرات تأخذهم إلى القتل.
كان الوضع سيئا للغاية في القرى الواقعة على طول نهر الفرات حيث ذهبت إنورا شام، فهناك واصلت الحكومة إلقاء البراميل المتفجرة من الطائرات المروحية، خاصة في وقت دفن الأطفال الذي يكثر فيه الحضور، مما جعل السكان مجانين من شدة الألم والكراهية للمجتمع الدولي، حتى أن المراقبين كانوا سيقتلون دون محاكمة لو ظهروا مباشرة بعد إسقاط البراميل.
وتضيف إنورا شام "في ذلك الوقت كان قادة كتائب الجيش السوري الحر يرفضون باشمئزاز أي تدخل من قبل القاعدة في ثورتهم، إلا أن أحدهم الآن -وهو يعرفني- أعلن أمامي أنه ورفاقه مستعدون للذهاب للحصول على أسلحة من الشيطان"، والشيطان هناك قادم من العراق، و"أنا -كما تقول الضابطة- في وضع جيد لأعرف أن هذا صحيح، وأن عدم التدخل الغربي يجعل القاعدة تظهر بشكل تدريجي كملاذ أخير ضد بشار".
جيش النظام لا يدمر المدن بشكل أعمى -كما تقول يوميات إنورا شام- بل يعمل بشكل مدروس ودقيق وهادف، وهو يستخدم نفس التكتيك في كل مكان، يحيط أولا بمنطقة كبيرة نسبيا بصورة قابلة للاختراق، وفي الوقت نفسه يتم إدخال المخبرين إلى المنطقة، ثم يرص الصفوف شيئا فشيئا حتى يحكمها، وبمجرد تحديد جيوب المقاومة أو المقاتلين يُطلب من السكان الخروج من المنطقة، ويتم التدقيق في الخارجين من قبل الشرطة وأجهزة المخابرات عند الحواجز، ليعتقل الرجال والشبان المشتبه في تعاطفهم مع الجيش السوري الحر أو المصابين بطلقات نارية.
وفي الوقت نفسه، يخرج المخبرون، ثم تقوم قوات النظام بالهجوم مستخدمة أسلحة ثقيلة مدعومة بالمروحيات، وحالما يتم احتلال المنطقة عسكريا يفسح جيش النظام الطريق للمليشيات التي تدخل في كل منزل وتقوم بطعن وذبح السكان باعتبارهم مقاتلين، ثم ينهبون المكان مثل "الجيش" وفي بعض الأحيان يتم إحراق المنزل أو تدميره بالمتفجرات، وهذه الأساليب تطبق في الريف وكذلك في المناطق الحضرية.
وتظهر حكومة النظام جثث مقاتلي الجيش السوري الحر مكدسة في شاحنات صغيرة بعد أن تم تشويهها، وتركز على مشاهد غاية في البشاعة، بعضها يشي بأن الشخص عذب قبل القتل وبعضها يوضح أنه أعدم، كما تقدم مشاهد لمعتقلين ووجوههم إلى الحائط وخلفهم جنود يتلاعبون بأسلحتهم أمام الكاميرا، وكأن النظام -من خلال هذه الصور التي تثبت وحشيته- يرغب في توجيه رسالة مطمئنة لمن يدعمه، ورسالة مرعبة للعصاة والراغبين في الانضمام إليهم، وكل هذا يحدث على بعد مبان قليلة من الأمم المتحدة.
وفي موضوع الأسرى، ترى مؤلفة اليوميات أن عدد الأشخاص المحتجزين من قبل الجيش السوري الحر ضئيل، وغالبا ما يكون من المجرمين العاديين أو من مقاتليه الذين "تصرفوا بشكل سيئ"، وهي ترى أن سجون الجيش السوري الحر تتمتع بسمعة مماثلة للسجون الحكومية.
وتشير إنورا شام إلى أن قادة الجيش الحر يظهرون ازدراء واضحا للمجلس الوطني السوري الذي يريد المجتمع الدولي منه تشكيل حكومة انتقالية، وهي فرضية يراها قادة الجيش السوري الحر سخيفة، وهم لا يريدون التعاون مع من فروا من سوريا ويسعون للحصول على سلطات لا يستحقونها، خاصة أنهم يعتقدون أنه لا يمكن التفاوض على أي شيء ما دام بشار في السلطة.
ترجمة: الجزيرة نت