بلدي نيوز - ياسر الأطرش
وقفت تتأمل "فترينة" عرض الطعام عند مطعم "مزايا" في شارع الباكستان بدمشق، بدت ملامحها متعبة تسكنها الحسرات، فكلُّ الطيبات أمامها، ولكن فيما بدا أنها غير قادرة أن تشتري ما تشتهي.. اقترب منها شاب، وقال: "شو جاية على بالك تاكلي خالتي"، نظرت إليه نظرات الريبة والشك، ملامحه لا تدل على أنها تعرفه، "عّم أتفرّج بس".. ظنته من نادلي المطعم، أردف: "يا خالة أنا حابب أشتريلك فطور ألك ولعيلتك"، أجابت: "ما بدي يا ابني، الله يعطيك العافية، الله كافينا"، "ونعم بالله يا خالة، لكن الأم بتطلب من إبنها، وأنتي قلتيلي يا إبني"، قال.. صمتت دون أية إجابة، "انتظريني دقيقة"، دخل المطعم، وخرج بعد فينة وبيده حزمة من الأكياس المصرورة، وقدمها لها بوجه مبتسم: "صحتين وهنا على قلبك يا خالة"..
حدث في دمشق.. ويحدث ما هو أقل وأكثر، إنْ إحساناً وإنْ تسابقاً على رغيف الخبز الذي ربما يكلف الإنسان حياته، ليس على سبيل المجاز، بل هي حقيقة في مخيم اليرموك بدمشق، فالحصول على رغيف خبز واحد يومياً، صار حلماً يستحق المجازفة بالحياة، وإلا فالموت جوعاً هو السبيل الأكيد.. لا بد إذن من المحاولة، وهو ما يفعله أبناء المخيم مرة أو أكثر في اليوم، يمرون ما بين رصاص قناصة المتصارعين للسيطرة على المخيم، ولا تفريق هناك بين مدني وعسكري.
أهل الشام.. غرباء في أرضهم
لم يترك نظام الأسد محارباً معه إلا وأقطعه حياً أو بلدة أو إقطاعاً في دمشق، فالإيرانيون والأفغان والباكستانيون والروس وعناصر "حزب الله" اللبناني، صاروا هم أهل دمشق والمتحكمين فيها، ولم يُخْفِ رأس النظام رغبته بتجنيسهم، على أنهم أحق بالبلد من أهله، حين قال إن سوريا للذي يدافع عنها، يقصد لمن يدافع عن نظامه، وهو ما تم فعلياً، إذ بسط هؤلاء سيطرتهم على دمشق، وبات أهلها غرباء مستضعفين.
"دمشق صارت داخل بيتي"، هذا ما قالته كاتبة وأديبة دمشقية عريقة، نذرت نفسها وقلمها للشام وتفاصيل وتراث الشام، مستحضرة البيت الشهير الذي صار ينطبق على الدمشقيين، فصار الشامي في دمشق "غريب الوجه واليد واللسان".
وعن الوضع الاقتصادي، قالت الكاتبة، التي طلبت إخفاء اسمها كونها تقيم في العاصمة، "لم أتناول موزة منذ ستة أشهر، ولا تفاحة ولا برتقالة، ليس لأني لا أملك المال، بل لأن هناك وجوهاً أولى لصرفه"، وأضافت "طلب مني طبيب الأسنان 300 ألف ليرة لقاء سدّ بعض النخور وقلع ضرس وتلبيس آخر"..
ختمت حديثها بأسى: "في أحد أحياء دمشق، كانت فرحة الناس لا توصف، حين زادوا مخصصات الشخص من رغيف إلى رغيف ونصف في اليوم"!..
دمشق.. مدينة المتسولين!
"دمشق تضيق بالمتسولين من كل الأعمار، الغالبية جائعة وبحاجة ولا تكذب.. دمشق الأمويين
باتت تستحق وبجدارة لقب عاصمة المتسولين في العالم".
هكذا وصف الكاتب الفلسطيني الدمشقي، مروان دراج، المشهد في العاصمة، التي رفض مغادرتها رغم كل المكابدات.
"طفلان تجاوزا عقدهما الأول بعامين أو ثلاثة على أبعد تقدير، كانا يتسولان على رصيف قريب من مقهى الروضة في دمشق، فجأة، تشاجرا وأخذ كل منهما يشتم الآخر بأقذع الكلمات، وحاول المارة الفصل بينهما... وبعيداً عن الألفاظ والعبارات الشوارعية المعروفة التي ردداها، فقد قال أحدهما للثاني بعد انفضاض العراك اللفظي.. (أنا عمبشحد لأنو بيتنا صار ع الأرض وأبوي استشهد وأمي فقدت ساقها، وأنت بتكذب على الناس وبتقول نفس الحكي مع أنو أهلك ما صرلون شي وبيتكم ما أكل ولا قذيفة)"..
هكذا وصف الكاتب دراج المشهد الذي عاينه، متسائلاً بدهشة: "هل هناك طفولة بائسة ومعذبة أكثر من هذه الطفولة"؟..
نعم، يأتي الجواب..
ربما طفلة لم تتجاوز السابعة من عمرها، بعينين خضراوين وشعر أشقر يطل خجولاً من تحت حجاب طفولي مرتبك، تقف حيرانة وراء سطل بائس يحوي بضع أكياس "سوس"، تسأل الله أن يمنّ عليها بمن يشتري قبل أن يأذن المؤذن بالإفطار، ويبدد أحلام البائعة الصغيرة.. هنا على رصيف في أنطاكيا.. ثمة طفلة تنتظر خشخشة ليرات قليلة بجيبها، ربما لتفرح بصوتها، وربما لتُفْرِحَ من أرسلها في طلب الرزق، وتسمع كلمة "الله يرضى عليكِ يا ابنتي".