بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
مقدمة
خلال أيام الهدنة التي امتدت على مدار 13 يوما بعد أن أعلنتها موسكو في 31 آب / أغسطس الفائت، نيابة عن نظام الأسد من طرف واحد، بعد سيطرة الميليشيات المتعددة الجنسيات المساندة للنظام على مساحة جغرافية واسعة من المناطق المحررة؛ شهدت المنطقة التي تسمى "خفض التصعيد الرابعة" وتضم محافظة إدلب وما تبقى من أرياف حلب الجنوبي والغربي وأجزاء من ريفي اللاذقية وحماة، تحركا عسكريا ملموسا على المستويين التعبوي والتكتيكي، وقد فُسّر ذلك بأنه تحضير لخوض معركة كبيرة للسيطرة على الطرق العامة في حال فشل المفاوضات الروسية التركية المتصلة بتنفيذ اتفاق سوتشي الذي عقد بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، في أيلول سبتمبر عام 2018، ومنذ أن دخل وقف إطلاق النار يومه الثالث عشر لم يتوقف نظام الأسد عن الخروقات اليومية التي استهدفت بالمدفعية بلدات وقرى ريف إدلب "الفطيرة وحزارين والشيخ مصطفى"، وفي حلب تعرضت قرى "زمار وحوير العيس وجزرايا" لقصف متواصل، وفي أول خرق من قبل القوات الروسية للهدنة التي أعلنت عنها موسكو 31 أغسطس/ آب الماضي، قتل مدني بقصف جوي روسي فجر الأربعاء على قرية الضهر التابعة لمدينة دركوش في ريف إدلب الغربي. وأعلن مصدر من الدفاع المدني لـ "بلدي نيوز"، أن نازحا من ريف حلب الجنوبي قتل نتيجة القصف الروسي، كما تعرضت قرية تلتيتا ذات الأغلبية "الدرزية" لقصف مماثل واقتصرت الأضرار على الماديات.
واستباقا لقمة أنقرة التي ستجمع قادة حلف "أستانا" يوم 16سبتمبر/أيلول الجاري؛ شنت طائرات النظام الحربية عدة غارات جوية استهدفت محيط مدينة "معرة النعمان" وبلدات وقرى "معرزيتا، وسفوهن، وحزارين، والدار الكبيرة، وبزابور، وحاس"، ما تسبب بأضرار مادية في الممتلكات الخاصة والعامة. ويأتي هذا التصعيد المتزايد كمناورة اعتادت روسيا عليها لفرض استراتيجيتها على الخصم.
الضغط العسكري المتزامن مع المفاوضات الدبلوماسية
جاءت هذه التطورات قبل اجتماع قادة حلف "أستانا" لإجراء محادثات حول ملف محافظة إدلب، في الوقت الذي تحشد فيه موسكو قواتها الخاصة وميليشيات الأسد، استكمالا للعمليات العسكرية التي بدأتها قبل ثلاثة أشهر، وقد كشف هذا المشهد أن موسكو تنتهج استراتيجية "الحرب الدبلوماسية"، أو استراتيجية "المفاوضات مع الضغط العسكري المتواصل مما يجبر الخصوم على قبول الشروط الروسية والاستسلام للقدر الروسي".
الملاحظ أن تحركات روسيا العسكرية والسياسية نشطت قبيل القمة الثلاثية نتيجة ضعف الموقف التركي للقبول بتنفيذ بنود سوتشي دون شروط، وقد أكد ذلك إعلان موسكو المتواصل بأنها عازمة على استمرار عملياتها العسكرية، فيما حمّلت تركيا نظام الأسد مسؤولية هذا التصعيد والتداعيات الناشئة عنه.
البند الثالث من سوتشي بنسخته الجديدة
نصّ البند الثالث من اتفاق "سوتشي" على بناء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 - 20 كيلومترا، وإقرار الخطوط المحددة للمنطقة منزوعة السلاح، والتخلص من جميع "الجماعات الإرهابية الراديكالية" داخل هذه المنطقة، وسحب جميع الدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بالأطراف المتقاتلة، وستقوم القوات المسلحة التركية والشرطة العسكرية الخاصة بالقوات المسلحة التابعة للاتحاد الروسي، بدوريات منسقة وجهود مراقبة باستخدام طائرات من دون طيار على امتداد حدود المنطقة منزوعة التسليح، إضافة إلى العمل على ضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية.
ونتيجة للتطورات العسكرية الأخيرة إثر تقهقر قوات المعارضة المسلحة والسيطرة الروسية على المنطقة الممتدة من ميدان غزال غربا ولغاية الخوين شرقا، بما تحوي من مدن وبلدات كــ "كفر نبوذة والهبيط وكفر زيتا واللطامنة وخان شيخون ومورك والتمانعة"، ألمحت وسائل إعلام روسية إلى توصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، إلى تعديل البند الثالث من اتفاق سوتشي والذي ينص على "إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15-20 كيلومترا داخل منطقة خفض التصعيد"، ليصبح عمق المنطقة 30 كم داخل المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة، ويتضح الإصرار الروسي على تعديل هذا البند للأسباب التالية:
ــ إخراج السلاح الثقيل من المنطقة منزوعة السلاح
ترمي روسيا من خلال تطبيق بند المنطقة منزوعة السلاح للسيطرة والتحكم بالمناطق الشطرية بين المعارضة ونظام الأسد وتأمينها من التهديدات المختلفة من خلال نزع أو إبعاد خطر السلاح الثقيل للفصائل بكافة أنواعه عن القواعد العسكرية الروسية، وعن المدن والبلدات التي يسيطر عليها النظام والواقعة في المدى المجدي للطائرات المسيّرة التي تستهدف قاعدة حميميم إن صدقت رواية الروس، وبمرمى راجمات الصواريخ ومدافع الميدان نوع 130 ملم، والتي تصل قذائفها إلى حدود 30 كم، وهذا يعني أن كامل منطقة ريف إدلب الجنوبي وأريحا وجسر الشغور وسراقب ومعرة النعمان وريفها وكامل ريف حلب الجنوبي وأجزاء واسعة من ريف حلب الغربي، خالية من السلاح الثقيل.
ـ إبعاد الفصائل "الجهادية" من المنطقة منزوعة السلاح
يقتضي ما سبق إبعاد الفصائل "الجهادية" من المنطقة منزوعة السلاح بسلاحها الثقيل والخفيف معا بشكل كامل ونهائي، والتي تصفها روسيا بالمتطرفة من المنطقة المحددة بناء على البند الخامس من اتفاق سوتشي (إبعاد جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية عن المنطقة منزوعة السلاح).
وكان فصيل "حراس الدين" قد شبّه في بيان سابق له اتفاق "سوتشي" بصيغته الأولى؛ باتفاق "دايتون" الذي أنهى الحرب في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي، معلنا رفضه تسليم سلاحه، ورفضت فصائل مسلحة عدة الاتفاق كــ "أنصار التوحيد، و أنصار الدين، وأنصار الله، وتجمع الفرقان، وجند القوقاز" التي رفضت الانسحاب من خطوط التماس مع قوات نظام الأسد، الممتدة من جسر الشغور إلى ريف حلب الجنوبي مرورا بريف إدلب الجنوبي الشرقي.
ـ السيطرة على الطرق الرئيسية
مع فرض عمق 30 كم تصبح الطرقات الرئيسية الرابطة بين حلب ودمشق وحلب واللاذقية داخل المنطقة منزوعة السلاح، وهو ما سيسهل فتحها على اعتبار أن المجموعات "الراديكالية" ستكون خارج المنطقة تلقائيا حسب نص الاتفاق القديم، وبذلك يتضح سعي موسكو إلى تحقيق أكبر قدر من المكاسب وعلى نحو مطلق، بما يعزِّز طموحها الاقتصادي، فضلاً عن العسكري والسياسي ودورها كقوة ذات تطلع دولي تسابق واشنطن نحو حقبة جديدة، وبناء على ذلك فإن أبرز الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إلى تحقيقها تكمن في تعديل البند الثالث من اتفاق سوتشي.
ـ إبقاء جيش الأسد وميليشيات إيران على حدود المنطقة منزوعة السلاح
إن بقاء ميليشيات الأسد وإيران في الجانب المقابل للمنطقة المحررة، يعني إحكامها السيطرة على مناطق واسعة بطول 250 كم بشكل نصف قوس، تمتد من ريف اللاذقية حتى ريف حلب الغربي بما في ذلك ريفي حماة الشمالي وحلب الجنوبي، وفي هذا السياق نشرت وكالة "الأناضول" (انفوغراف) يوضح انتشار من سمتهم بـ "الإرهابيين" المدعومين من إيران في محيط إدلب، مشيرة إلى أن "إيران تواصل دعمها للنظام السوري بأكثر من 120 ألف مقاتل إرهابي أجنبي، ينتمون لـ 22 مجموعة قتالية، في حين تم رصد 232 نقطة تنتشر فيها المجموعات بمحيط إدلب.
خاتمة
يبدو أن اتفاق "سوتشي" بنسخته الروسية الجديدة هو الأكثر فاعلية ويبدو أنه الأسبق في التنفيذ من أي مسعى سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو، ومهدت له في "أستانا" بقصد تثبيت وقف إطلاق النار لعزل فصائل الثورة عسكريا عن الصراع الدائر وقتذاك ضد تنظيم "داعش" في وادي الفرات، تمهيدا للدخول في مفاوضات لحلّ الأزمة سلميا، لكن شيئا من ذلك لم يحدث، وكان الخيار العسكري هو الأسبق لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها، ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في "أستانا" بعد الالتفاف عليها طويلا، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري بشكل دقيق، لذلك جاء سوتشي ذريعة لوصد الأبواب أمام أيّ مسعى حقيقي إلى السلام ونسف "قرارات جنيف" التي أقرها ممثلو الدول الكبرى لتسجل الدعوة إلى هذا المؤتمر شهادة أخرى، على أنّ تجربة الحسم العسكري في تثبيت سلطة الأسد المستولى عليها هي المألوفة في الاستراتيجية الروسية، وأنّ ما سوى ذلك للعب بالوقت ومحاولات ابتزاز سياسية، بهدف تمكين سلطة الأسد بالقوة وطي وثائق جنيف باعتبارها أقوى الوثائق السياسية الدولية لحل الصراع في سورية.