بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
مهّدت التطورات العسكرية المتعاظمة التي شهدتها محافظتا إدلب وحماة لتحول دولي وإقليمي شديد الأهمية في المشهد السوري بأكمله. وفيما عكس توقف العمليات العسكرية في مدينة خان شيخون حالة تخبّط شديد في حلف آستانا، تبدو موسكو في حالة "حرجة"، بعد فشلها في استمرار العملية العسكرية.
خان شيخون
توقفت العمليات العسكرية الروسية قسريا في ريفي حماة الشمالي وإدلب الجنوبي عند أسوار مدينة خان شيخون. وفيما حمل مساء الأحد الماضي أنباء عن انسحاب شامل نفّذته الميليشيات الروسية المسلّحة المتعددة الجنسيات من بوابة المدينة الشمالية، حمل اليوم التالي انكشافا واضحا لتفاصيل اتفاق سوتشي، الذي يشي بأن مدينة خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي خارج إطار سيطرة ميليشيا نظام الأسد, وبخلاف ما روجته بعض المصادر الإعلامية، اتضح أن الميليشيات نفذت انسحابات من محيط خان شيخون، لتعيد بعضها التمركز في عدد من النقاط والتلال المحيطة بالمدينة من كل الجهات. وتبادلت الميليشيات الروسية على محور خان شيخون الغربي, والميليشيات الإيرانية التي تقود المعارك على المحور الشرقي في سكيك الاتهامات حول مسؤولية توقف القتال على محور تقدم الميليشيات الروسية, والانكسار الكبير الذي مُنيت به، إثر تنكيل "الفتح المبين" بميليشيا حزب الله على محور جبهة سكيك والإيحاء بأن المسؤولية تقع على عاتق القوات الجوية الروسية، لعدم تقديمها الدعم الجوي الكافي كما تفعل في الجبهة المقابلة، والتي تضم "القوات الخاصة الروسية" و"الفيلق الخامس اقتحام" و"الفرقة الرابعة" وفقا لما قاله مصدر مرتبط بـ"ميليشيات حزب الله اللبناني" لـ"بلدي نيوز".
في المقابل، بررت روسيا انسحاب ميليشياتها من بوابة خان شيخون إلى اعتراض الشريك التركي على تجاوز بنود اتفاق سوتشي, وما واجهته من مقاومة شرسة من مقاتلي "الفتح المبين" المتواجدين على أطراف المدينة, وبات استمرار الهجوم عليها بالمهمة الصعبة التي ستفتح مسارات جديدة من الخلافات والتوافقات بين "حلف أستانا".
مصير ريف حماة والنقطة التركية
تعمل غرفة عمليات "الفتح المبين" على اتباع تكتيك "الإغارة والكمائن" لاستنزاف قدرات الميليشيات البشرية انطلاقا من نقاط انتشارها في التلال الحاكمة نحو تمركزات الميليشيات الروسية في المناطق التي احتلتها حديثا, ويؤكد مسار العمليات العسكرية أن مدينة خان شيخون نقطة خلاف كبيرة بين روسيا وتركيا, إذ بدا لافتا صمت نظام الأسد حيال ما يجري في "خان شيخون"، ما يؤكد بأن بوصلة العمليات العسكرية مضبوطة روسيا فيما تبدو ميليشيات نظام الأسد بيدقا وواجهة لموسكو فحسب، ويذكر ذلك بحقيقة أن نظام الأسد بشكله الحالي بات مجرد قوة وكيلة للحلفاء في طهران وموسكو، خصوصا أنه يفتقر للقدرات البشرية بعد إفراغ البلاد من سكانها والخسائر البشرية الكثيرة التي لحقت بجيشه منذ العام 2011. حتى باتت الميليشيات التي تهاجم إدلب معظمها خليط من جنسيات مختلفة "روس وإيرانيين وأفغان" فيما تحولت ميليشيات الأسد إلى طرف لا ثقة للروس به ولكنهم يحتاجونه في معرفة الجغرافيا. ومن بين القراءات الجديرة بالاعتبار لتطورات الميدان، أن تركيا أجبرت الميليشيات الروسية على التوقف عند حدود مدينة خان شيخون ومنعها من توسيع عملياتها شمالا, وكذلك منعها من بسط السيطرة لمسافة طويلة على أوتوستراد حلب ــــ دمشق الدولي (M5). فيما أخلت الفصائل المقاتلة وأبرزها جيش العزة أماكن تواجدها في مدن وبلدات خان شيخون وريف حماة الشمالي. لتسيطر الميليشيات الروسية على خان شيخون صبيحة اليوم الخميس بعد توقف للعمليات العسكرية لمدة أربعة أيام, فيما تعتبر بلدات" اللطامنة وكفر زيتا ومورك" في ريف حماة الشمالي بحكم الساقطة, وتؤكد تركيا على أن قواتها لن تنسحب من أي نقطة مراقبة باعتبارها إحدى مخرجات اتفاق سوتشي، وترى أن انسحابها من النقاط يعني عمليا انتهاء الاتفاق، وتدرك أن انسحابها من نقطة "مورك" المحاصرة سوف يتسبب لها بالإحراج لأن انسحابها يعني أنه لا جدوى ولا فائدة من نقاط المراقبة في الشمال السوري. وفي الواقع كان ثمة أسباب بارزة وراء انكسار فصائل الثورة المقاتلة وانحيازها عن بعض مواقعها الممتدة من كفر نبوذة إلى محيط مدينة خان شيخون, ولعل من أبرزها:
- الدعم العسكري الروسي للميليشيات التابعة لها بالعدة والعتاد والإسناد الجوي.
- اتخاذ الفصائل المقاتلة وضعا دفاعيا صعبا و تمركزها في مناطق يعسر وصول التعزيزات البرية إليها في ظل تواضع آلتها العسكرية.
ما بعد خان شيخون
تعدّ الشراكة بين أنقرة وموسكو من "المسلمّات" في الصراع السوري، والتي تطورت في السنوات الثلاث الماضية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا. واتسمت بشكل خاص بالعلاقة الشخصية الوثيقة بين أردوغان وبوتين. وتتداخل وجهات نظرهما إلى حدّ كبير بشأن مناطق خفض التصعيد وبعض القضايا الإقليمية, ولكن الأمور قد تتغير نظرا للاختبارات التي تمرّ بها هذه العلاقة من خلال خرائط النفوذ المرسومة في سوتشي بينما تتابع جهات فاعلة كثيرة، ومراقبون أيضا الأمر عن كثب. ما يمكن أن تحمله الاجتماعات المتواصلة بين الجانبين حول مصير خان شيخون وكيفية تنفيذ بنود اتفاق سوتشي، مما يشير إلى ترحيل التفاصيل إلى موعد انعقاد القمة الرئاسية الثلاثية لـ"ضامني أستانا" في 11 أيلول/ سبتمبر) المقبل, والتي تحمل تطورات حافلة على المستويين العسكري والسياسي, حيث يحاول الطرفان التوصل إلى صيغة تفاهم جديدة لترتيب الأوضاع في هذه المنطقة استنادا إلى بنود اتفاق سوتشي.
تقول مصادر دبلوماسية مواكبة لكواليس "أستانا" بنُسخه المتعددة لبلدي نيوز، إن "القمة الثلاثية" ستؤكد التمسك الروسي بتنفيذ اتفاق سوتشي وفق جداول زمنية واضحة، ومن بين التفاصيل يأتي "تنفيذ البند المتعلق بالمنطقة المنزوعة السلاح بعمق 15 - 20 كيلومترا، وإقرار الخطوط المحددة لهذه المنطقة عبر لجان مختصة من الطرفين، وإخراج الجماعات الراديكالية منها، وسحب جميع الدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بالأطراف المتقاتلة، على أن تقوم القوات المسلحة التركية والشرطة العسكرية الخاصة بالقوات المسلحة التابعة للاتحاد الروسي، بدوريات منسقة وجهود مراقبة باستخدام طائرات من دون طيار، على امتداد حدود المنطقة منزوعة التسليح، ويضاف إلى ذلك، بند آخر يتعلق بفتح الطريقين الدوليين "M4، وM5"، وآليات مراقبتهما لضمان حرية حركة السكان المحليين والبضائع، واستعادة الصلات التجارية والاقتصادية، وإقامة نقاط جديدة تشرف على طريق حماة ـــ حلب الدولي.
وكان وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أكد أن بلاده "لا تنقل نقطة المراقبة التاسعة إلى مكان آخر"، وحذر نظام الأسد من "اللعب بالنار". وتعليقا على عدوان الطيران التابع للنظام على رتل تركي كان يتجه نحو نقطة المراقبة التركية في مورك، قال المسؤول التركي إن "على نظام الأسد ألا يلعب بالنار، وسنفعل كل ما يلزم من أجل سلامة جنودنا". وأكد أن بلاده "تجري اتصالات على جميع المستويات مع روسيا". وفي هذا السياق قال المتحدث الرئاسي التركي: "جميع مواقع المراقبة التركية في سوريا ستظل قائمة وسنواصل تقديم الدعم لها".
والسؤال المتصل, هل سيتم تنفيذ كامل بنود اتفاق سوتشي الذي تسربت معظمها عبر وسائل الإعلام، وما هو مصير المناطق التي ستبقى خارج سيطرة الأسد شمال غرب سوريا، هل سيعاد احتلالها من روسيا، أم ستتولى تركيا، من حدودها ولعمق 30 كلم، الإشراف وإعادة الإعمار والتأهيل، بحسب ما قيل عن ورقة تركيا البيضاء التي قدمتها إلى روسيا.
يدور الحديث عن مفاوضات تخوضها أنقرة وموسكو للتوصل إلى اتفاق بشأن الوضع المستجد في المنطقة بعد خان شيخون، وتشير التسريبات التي حصلت عليها "بلدي نيوز" أنها تتضمن وقفا لإطلاق النار وتراجع الميليشيات التي تقودها روسيا إلى بلدة الهبيط غرب خان شيخون, وفتح الطريق الدولي (حماة ـــ حلب) أمام حركة التجارة والتنقل، تنفيذا لتعهدات أستانا، وعدم انسحاب نقطة المراقبة التركية التاسعة في بلدة مورك.
في المقابل، أوقفت موسكو بالاتفاق مع تركيا عملياتها العسكرية البرية والجوية باتجاه خان شيخون وريف حماة الشمالي, وصعدت إعلاميا بالعزف على وتر محاربة الإرهاب كذريعة لتغطية عدوانها على المدنيين جنوب إدلب، إذ أكد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أن "الإرهابيين في إدلب يواصلون اعتداءاتهم على المدنيين، ولا يمكن السماح باستمرار الوضع على ما هو عليه".
وليس من المتوقع أن تأخذ الخلافات التركية الروسية أبعاداً باتجاه تأزيم العلاقات بين الطرفين, إدراكا من موسكو قدرة أنقرة على قلب موازين القوى في المعارك الجارية, فضلا عن شراكتهما المستجدة خارج الملف السوري.
خلاصة
على ما يبدو أن تركيا تحرص على ألا تفقد نفوذها في سوريا، وبالأخص محافظة إدلب المشاطرة لحدودها، والتي في حال استمرار العدوان الروسي عليها ستواجه موجات نزوح جديدة تثقل كاهلها اقتصاديا واجتماعيا، لذلك تعمل على تثبيت المنطقة العازلة بالتحرك دبلوماسيا لتأمين دعم أممي يرسي السلام في منطقة إدلب ومحيطها، تزامنا مع سعيها لإيجاد حل سياسي لتسوية وضع "هيئة تحرير الشام" ضمن إطار صيغة توافقية تمنع العدوان الروسي وأحلافه من تبرير عدوانهم بذريعة "محاربة الإرهاب".
من هنا تعمل تركيا على تطبيق بنود "سوتشي" من خلال استعدادها للدفاع عن مكتسباتها في سوريا، وتكثيف حضورها العسكري على خطوط المنطقة العازلة في نقاط المراقبة المواجهة لنقاط القوات الروسية، وتلك التابعة لميليشيات إيران والأسد، يحدوها في ذلك حرص روسيا على مصالحها المشتركة مع تركيا، علاوة على الموقف الدولي الرافض للحرب الشاملة على إدلب وقدرتها على التأثير العسكري في معادلة الصراع القائم.
فيما يذهب الرافضون لسوتشي إلى أن ما تقوم به روسيا خدعة تريد من خلالها تمرير الاتفاق لاستدراج فصائل المعارضة إلى القبول به، والتوقيع عليه، ثم تقوم بنقض ما لا يتفق مع مصالحها، لأنها منذ احتلالها سوريا قبل أربعة أعوام، لا تتعامل مع المعارضين للأسد وفق مبادئ قانونية سواء دولية أو هي من استصدرتها باعتبارها دولة لا تطالها مبادئ قانونية، ولا تلزمها قرارات دولية، وكل ما تبديه من تراجعات ظاهرية قبل بلوغ هدف من أهدافها المرحلية لا يتعدى أن يكون تراجعا في التكتيك ضمن إطار الاستراتيجية العامة التي رسمتها لنفسها في سوريا.