ممر "السلام الآمن" شمال سوريا.. تفاهمات ظرفية وسيناريوهات محتملة - It's Over 9000!

ممر "السلام الآمن" شمال سوريا.. تفاهمات ظرفية وسيناريوهات محتملة

بلدي نيوز – (تركي مصطفى)

منذ التدخل الأميركي في سوريا، في إطار ما يسمى "التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب"، انتهجت واشنطن استراتيجية واضحة المعالم، لتوسيع نفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي "ب ي د" الكردي عبر جناحه العسكري الوحدات الكردية، والتضييق على باقي مكونات مجتمع الجزيرة السورية, والذي يشكل العرب الأغلبية في هذا الحيز الجغرافي الذي سمي مؤخرا "شرق الفرات"، وازداد هذا النهج وضوحا بعد القضاء على تنظيم "داعش"، من خلال إصرار واشنطن على دعم "التنظيم الكردي" عسكريا وأمنيا وتمكينه من الاستمرار في السيطرة  والنفوذ في هذه المنطقة التي تشكل خطرا على أمن الدولة التركية لأنها تعتبره امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي تخوض حربا ضده منذ عقود والمصنف على قوائم الإرهاب، فحشدت أنقرة  قواتها العسكرية على الحدود إيذانا بإطلاق عملية عسكرية داخل الأراضي السورية ردّا على المماطلة الأميركية في إيجاد حلّ يضع حدّا للقلق التركي المتعاظم جراء التهديدات على حدودها الجنوبية.

وتبرز آثار هذه السياسات في المشهد القائم في مناطق انتشار "الوحدات الكردية"؛ التي تقوم بوظائف الأجهزة الحكومية الرسمية، وتولي ملف الإرهاب اهتماما خاصا، بوصفه جسرا لبلوغ رضا واطمئنان الولايات المتحدة, ومعها القوى الدولية المؤثرة. في طريق الانتقال إلى المطالبة بالانفصال، وهو ما أدركته الحكومة التركية من خلال تزايد قدرات هذه الميليشيات، وتوسع انتشارها، وقيامها باستهداف المعسكرات والمدن التركية. لهذا يواصل الجيش التركي تعزيز قواته العسكرية المنتشرة في المناطق الحدودية المتاخمة لشرقي الفرات قادمة من مختلف الولايات التركية، وتضم هذه التعزيزات مدافع ثقيلة من طراز "فرتنا" ومدرعات ودبابات بالإضافة الى وحدات خاصة تركية، وذلك ضمن التحضيرات التي تجريها تركيا استعدادا لعملية مرتقبة شرقي الفرات.

وبالفعل بدأت أنقرة بتفكيك أجزاء من الجدار الإسمنتي مع سوريا في منطقة تل أبيض، وجاء سيل التصريحات على مستوى الرئاسة ووزارتي الدفاع والخارجية، ووصل إلى حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث قال الناطق باسم الحزب، عمر جليك: "لدى تركيا القدرة بمفردها على فرض المنطقة الآمنة بالقوة إذا تعذر التوصل الى اتفاق الأطراف الدولية" في إشارة إلى المفاوضات التي كانت جارية في أنقرة بين تركيا والولايات المتحدة.

وبعد اتخاذ تركيا إجراءات عسكرية لشن هجوم واسع النطاق ضد ميليشيات مسلحة تابعة لـ"حزب الاتحاد الديمقراطي"، سارعت الولايات المتحدة لاحتواء الغضب التركي بالوسائل "الخشنة والناعمة", وقال وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر في رسالته لأنقرة: "إن بلاده ستمنع أي توغل أحادي الجانب في شمال سوريا"، واصفا العملية التركية التي هددت بها أنقرة بـ"غير المقبولة". وجاء تصريح إسبر بعد إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده ستشن عملية في شرق الفرات ضد الوحدات الكردية، وأنه أبلغ موسكو وواشنطن بخصوص ذلك. في ظل الجدل الدائر حول المنطقة الأمنية أو ما اصطلح على تسميته بـ "ممر السلام الآمن"، وتداعياته القائمة والمتوقعة؛ يدور النقاش والتحليل ذلك في سياق مجموعة من المحاور، التي تتضمنها هذه الورقة.

أهمية المنطقة "الآمنة"

تحتل المنطقة "الآمنة" شرق الفرات موقعا جغرافيا حيويا بالنسبة لثلاث محافظات "حلب والرقة والحسكة" ذات الكثافة السكانية المتوسطة، في جزء من الجهة الشمالية الشرقية للبلاد، على أراض أغلبها سهلية زراعية، بشريط يمتد على الضفة الشرقية لنهر الفرات بطول 460 كم، يبدأ من منطقة الشيوخ التابعة لعين العرب غربا حتى نهر دجلة شرقا, وتنتشر في هذه المنطقة غالبية آبار النفط السوري, ومنها يمر طريق M4 وهو أطول الطرق السورية على الإطلاق والذي يبدأ في اللاذقية ويصل إلى حلب مخترقا ريفها الشرقي في الباب ومنبج ومنها إلى ريف الرقة الشمالي، لينتهي عند معبر اليعربية في محافظة الحسكة قرب الحدود العراقية، ومنها إلى الموصل في العراق. وتدرك أطراف الصراع أهمية السيطرة على هذا الطريق الذي يعني التحكم العسكري والاقتصادي بهذه المنطقة.

التلويح بالقوة

ازدادت أهمية إقامة المنطقة الآمنة مع تزايد تعرض المناطق التركية لهجمات صاروخية ومدفعية، كان آخرها ما تعرضت له مدينة جيلان بينار التابعة لولاية أورفة التركية، ليل الاثنين/الثلاثاء 23/07/2019، مصدرها مدينة رأس العين السورية التي تسيطر عليها "الوحدات الكردية"، وقد عُدَّت هذه الهجمات تهديدا للسلام والأمن في تركيا؛ من هنا لوّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعملية عسكرية في القريب العاجل ضد الميليشيات شرق نهر الفرات في سوريا, وقال أردوغان: "إن بلاده مستعدة لاستخدام القوة لحماية مصالحها القومية". وأضاف أن القضاء على ما سماه "الكِيان الإرهابي" في شمال شرقي سوريا من أولويات بلاده، معتبرا أن هذا الكيان "الكردي" ينمو مثل الخلايا السرطانية ويهدد أمن تركيا. وتابع "أن بلاده ستتخذ قريبا جدا خطوات تتعلق بمرحلة العمليات التي بدأتها بعملية درع الفرات في سوريا منذ أغسطس/آب 2016 بالتعاون مع بعض فصائل المعارضة السورية. وبينما كان أردوغان يلوح من أنقرة بعمل عسكري قريب ضد الوحدات الكردية في سوريا، أعلن وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر من طوكيو أن أي عملية عسكرية تركية في منطقة شرق الفرات شمالي سوريا ستكون غير مقبولة، وأن واشنطن ستمنعها. ورغم إقرار الجانب الأميركي بضرورة إنشاء منطقة آمنة شرقي الفرات في سوريا، غير أن التوصل إلى هذا الاتفاق لا يفضي  بالضرورة، إلى تنفيذه وفق ما يريده القادة الأتراك، إذ سبق وأن حصل اتفاق ما بين الولايات المتحدة وتركيا حول منبج في بداية شهر يونيو/ حزيران 2018، وكان يقضي بانسحاب الوحدات الكردية من المدينة، وتسليم أسلحتها الثقيلة، وانتخاب مجلس محلي، لكن الاتفاق لم يتم تنفيذه، على الرغم من تشكيل مجموعة عمل مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا من أجل ذلك، وهذا ما يفسّر تحذير وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، من أن بلاده لن تسمح بالمماطلة الأميركية في تنفيذ الاتفاق التركي الأميركي حول المنطقة الآمنة شرقي الفرات. ليعود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مجددا إلى التهديد بأن عملية عسكرية تستهدف المقاتلين الأكراد في منبج وشرق الفرات في شمال سوريا قد تنفذ خلال أغسطس (آب) الجاري. وقال أردوغان، في رسالة بمناسبة عيد الأضحى إن "أغسطس يعرف بشهر الانتصارات في تاريخ الأمة التركية، ونأمل إضافة نصر جديد لسلسلة الانتصارات هذا الشهر". ولفت أردوغان إلى عدد من المعارك منذ الدولة العثمانية وحتى عملية "درع الفرات" بشمال سوريا في أغسطس (آب) 2016 التي قال إنها كانت الضربة الأولى لما سماه بـ"الممر الإرهابي" المراد تشكيله على حدود تركيا مع سوريا. وأضاف "سنضيف نصرا جديدا إلى سلسلة الانتصارات في تاريخنا، في أغسطس الحالي أيضا... سنواصل إلحاق الهزيمة بمن يخططون لإيقاف مسيرة بلادنا عبر وسائل خبيثة عديدة، انطلاقا من هجمات المنظمات الإرهابية وحتى الأفخاخ الاقتصادية".
من جانبه، قال وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار إن بلاده ستواصل العمليات العسكرية في شمال سوريا والعراق، مضيفاً: "الدخول إلى أوكار (الإرهابيين) أينما وجدت دين في أعناقنا... ولن نتغاضى عن تشكيل (ممر إرهابي) شمال سوريا إطلاقاً". وقال الرئيس التركي إن تركيا ستدفع لاحقا ثمنا غاليا إذا لم تقم باللازم في شمال سوريا، مضيفا أن أنقرة تنتظر من الولايات المتحدة أن تتخذ خطوة تليق بحليف استراتيجي حقيقي.

التوافق التركي-الأميركي

يبدو أن خيار الحسم العسكري لتقرير مصير المنطقة الآمنة، انكفأ العمل به، وفقا لما تم عرضه من تفاهمات تركية أميركية، فضلا عن أن السيطرة التركية على هذه المنطقة، لا تخرج عن الغاية من عملية استعدادها العسكري، المتمثلة بدحر التنظيم الكردي "ب ي د" الذي تصفه بالإرهابي، وإعادة السلام لهذه المنطقة، سواء بخيار القوة أو بالخيار السياسي الذي لا يتعارض مع هذه الغاية. وعليه، فإنه حسبما ذكرت وسائل إعلام أميركية أخيرا، فإن العرض الأخير الذي قدّمه الجانب الأميركي لتركيا كان يتضمن القيام بعملية عسكرية مشتركة بين الجانبين لتأمين منطقة عازلة جنوبي الحدود التركية ـ السورية، بعمق 14.4 كيلومترا وبطول 140 كيلومترا، ستكون خالية من أي وجود للوحدات الكردية، على أن تقوم القوات التركية والأميركية بتدمير التحصينات الكردية، وتسيير دوريات مشتركة في المنطقة.

وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن تركيا سبق ورفضت اقتراحا مماثلا، خلال الاجتماع الأخير بين الطرفين في 23 يوليو/تموز الماضي بأنقرة، وأصرّت على إقامة منطقة آمنة بعمق 32 كيلومتراً على الأقل، والسيطرة عليها بشكل أحادي. وأوضحت الصحيفة أنه في حال رفض تركيا للعرض، فإن أميركا لن تستطيع، تحت سلطة الكونغرس الحالية، التدخل لحماية المقاتلين الأكراد. وعلى الرغم من أن تفاصيل الاتفاق لإنشاء المنطقة الآمنة لم يُعلن عنها، إلا أنه كان بمثابة الحل الوسط، كونه أرضى الطرف التركي، من جهة الإقرار الأميركي بضرورة إنشاء منطقة آمنة شرقي الفرات في سوريا، وأبعد، في الوقت نفسه، إمكانية القيام بعمل عسكري تركي ضد الوحدات الكردية في سوريا. في ظل هذا التوافق، تجدر الإشارة إلى أن الطرف التركي يريد من المنطقة الآمنة أن تكون خالية من الوحدات الكردية وتلك المتناسلة عنها، باعتبارها منظمات إرهابية تشكل خطرا على الأمن القومي التركي. لذلك تريد تركيا أن يكون "ممر السلام الآمن" بعمق يتراوح بين 32 و40 كيلومترا، ويمتد على طول 460 كم، ويبدأ من الضفة الشرقية لنهر الفرات، وصولا إلى الحدود السورية العراقية، ليتسنى لتركيا السيطرة على طريق M4.

وتدرك أطراف الصراع أهمية السيطرة على هذا الطريق الذي يعني التحكم العسكري والاقتصادي بهذه المنطقة وذلك كي تمنع أنقرة التواصل بين الوحدات الكردية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني في جبال سنجار وجبال قنديل، بينما تريد الولايات المتحدة أن تكون المنطقة الآمنة بعمق 15 كيلومترا، وعلى طول لا يتجاوز 140 كيلومترا، وأن تكون مدينة عين العرب والحسكة والقامشلي خارج المنطقة الآمنة. وهناك خلاف بين الطرفين بشأن القوات التي ستنتشر في المنطقة الآمنة، والمسؤول عن أمنها وسوى ذلك. وهو ما يجري العمل عليه لتسوية الخلافات الناشبة بين وجهتي النظر التركية والأميركية.

مركز عمليات مشترك

يبدو أن التفاهم الأميركي التركي على تقاسم مكاسب الحرب في شرق الفرات، لن يدوم طويلا، رغم إعلان كل من الولايات المتحدة وتركيا العضوان في حلف شمال الأطلسي، أنهما قد اتفقتا على انشاء مركز عمليات مشترك لتنسيق إقامة منطقة آمنة في سوريا, وأن وفدا أميركيا وصل إلى إقليم شانلي أورفة جنوبي البلاد، لبدء العمل على إنشاء هذا المركز. وأكد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في مقابلة تلفزيونية أول أمس (الاثنين)، أنه سيتم قريبا افتتاح مركز العمليات المشتركة المقرر إقامته بموجب الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الولايات المتحدة من دون الكشف عن أي تفاصيل بخصوص حدود المنطقة ومساحتها ومن سيملأ فراغ الوحدات الكردية. ما زالت الأمور ضبابية وغير واضحة، وإن توقفت لغة التهديد بالحرب فالحشود العسكرية لم تبرح مكانها.

وعلى الرغم مما سبق، ومع ما تواجهه التفاهمات الأميركية التركية من تحديات، وما يدور من تنافس قد يفضي إلى اتساع الفجوة بينهما، إلا أنهما اتفقتا على الحوار الذي قد يستغرق وقتا طويلا بحيث سيعمد الجانب الأميركي إلى إغراق الجانب التركي بتفاصيل مملة باقتفاء أثر تجربة منبج القائمة دون التوصل إلى حل.

مستقبل "الممر الآمن" 

يمكن تصور المآل المحتمل للممر الأمن وفقا لما يلي:

1- السيطرة التركية على الممر بالحسم العسكري:

يبدو أن خيار الحسم العسكري لتقرير مصير الممر الآمن، لا يزال قائما لدحر الوحدات الكردية وإبعادها عن الحدود التركية, وفي ظل هذا الخيار، تجدر الإشارة إلى أن الجيش التركي، لن يتولى وحده تنفيذ سيناريو الحسم، فالجيش الوطني السوري سيشاركه وستُوكَل إليه مهام معينة في سياق الهجوم البري، حيث تستعد تشكيلات الجيش لإجراء مناورة مع الجيش التركي بهدف شن عملية عسكرية لحسم معركة الممر الآمن، على غرار عملية غصن الزيتون عام 2018م. وفي حال الإصرار التركي على تنفيذ العملية العسكرية شرق الفرات, فإن أميركا لن تستطيع، تحت سلطة الكونغرس الحالية، التدخل لحماية المقاتلين الأكراد بحسب ما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.

2- بقاء المنطقة تحت سيطرة الوحدات الكردية:

هذا السيناريو هو المرجح حيث ستبقي الولايات المتحدة منطقة شرق الفرات تحت سيطرة الأكراد، لفترة محدودة  تقتضيها خطة معينة، ريثما تهيأ  ظروفا ملائمة للتفاهم مع الجانب التركي على المنطقة. من هنا، تتذرع الولايات المتحدة بخشيتها من عودة تنظيم "داعش" إلى الحياة؛ فالضرورة الاستراتيجية التي تخدم واشنطن، إحياء تنظيم "داعش" في سوريا، مما يعطي الفرصة لديمومة الاحتلال الأميركي للمنطقة، وكذلك للذين يدافعون عن ذريعة وجودهم في سوريا. مما سيرتب على الجانب الأميركي اعتماد تكتيك "منبج" في المماطلة والتسويف من خلال جولات تفاوض ماراثونية قد تستمر لسنوات ما دامت التشابكات الدولية قائمة بصورتها الراهنة.

حتى الآن، ما يزال كلا الطرفين يمسكان بخيار التسوية السياسية، أما التوصل إلى حلول مستدامة، فمرهون بظروف كل طرف منهما التي تتباين بصورة واضحة، تجسدها المفاوضات التي يؤمل فيها كل طرف تبدلّها لمصلحته وهو ما تعمل واشنطن على إطالة أمدها، بناء على حسابات مشابهة لمفاوضات مدينة منبج، فهل تقبل أنقرة بهذا التوجه الأميركي؟

 

مقالات ذات صلة

رئيس حكومة لبنان يدعو فرنسا لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد

"مجلس الشعب" التابع للنظام يشارك باجتماعات البرلمان العربي في مصر

تحديد موعد مؤتمر بروكسل الثامن من أجل مستقبل سوريا

مقتل نحو 20 عنصرا لميليشيات إيران بريف حمص

قبل انطلاقة "بروكسل".. الاتحاد الأوربي يؤكد دعمه للشعب السوري

أمريكا تعلق على تقرير "العفو الدولية" الذي يتهمها بارتكاب انتهاكات في سوريا