"ملفات الأسد 2": تقرير يثبت تورط الأسد المباشر في إبادة السوريين
The New Yorker - ترجمة بلدي نيوز
وتكمل صحيفة "النيويوركر" التحقيق الموسع الذي قام به الصحافي "بن توب" تحت عنوان "ملفات الأسد"، والتي تربط نظام الأسد مباشرة بالقتل والتعذيب الجماعي، في ما قد يشكل مع الصور التي التقطها "القيصر" أكبر ملف قضائي منذ محاكمات نورمبرغ.
جمع الوثائق:
كانت الحرب تسير بشكل سيئ بالنسبة للأسد، وفي عام 2012، ارتفع عدد المنشقين رفيعي المستوى من الجيش والوزارات المدنية بشكل كبير، وانضم المنشقون إلى الجيش السوري الحر، وهي منظمة من الجماعات الثورية التي كانت تأمل تحويل سورية إلى دولة ديمقراطية، ولكن الجهاديين بدأوا بالظهور على ساحات المعركة أيضاً، وأثبتوا أنهم أكثر قدرة على القتال من الجيش الحر، وقام العديد من مقاتليهم بالسيطرة على نقاط العبور الرئيسية إلى تركيا، وأخرجوا القوات الحكومية السورية من معظم أنحاء شمال سوريا، بما في ذلك أجزاء من إدلب وحلب، أكبر المدن السورية.
وفي شهر شباط، قام رئيس إدارة الخلية بسؤال بركات عن التسريبات، بعد وشاية موظف معه، مما جعله يغادر سوريا، ولكن ليس قبل تأمين محاضر الاجتماعات الموجودة في مكاتب أعضاءها، كما أنه خطط لسرقة المراسلات بين خلية الأزمة والمكتب الرئاسي، ورئيس الوزراء، ووزارة الداخلية، وهو ما قام به في أحد الأيام، عندما جمع ما يستطيع من الوثائق، قبل أن يسافر ما يقارب مئتي وخمسين ميلا من دمشق إلى الشمال نحو الحدود التركية.
وكان الجيش السوري يسيطر على المعبر الحدودي، لكنه استطاع الهرب عبر إلصاق أكثر من ألف ورقة على جسده، والدخول إلى فندق تحت اسم وهمي، وقبل أن تدرك دمشق أنه غادر، و بعد أن أخرج والدته من سورية بأمان، خرج بركات للعلن، وأخبر قناة الجزيرة أنه يريد إيصال الوثائق للمحكمة الجنائية الدولية.
بعد هرب بركات بقليل، نقلت الخلية اجتماعاتها من مقر حزب البعث إلى مكتب الأمن القومي المحصن في دمشق، إلا أن انفجاراً حصل داخل غرفة الاجتماعات في تموز/ 2012، وسط أنباء عن حصول انقلاب، وأدى لمقتل رئيس خلية الأزمة حسن تركماني، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، ووزير الدفاع وائل راجحة، وصهر الأسد عاصف شوكت، الذي كان نائب وزير الدفاع حينها.
في اليوم التالي، عنونت صحيفة "التايمز" البريطانية مقالتها بالتالي: "واشنطن تبدأ التخطيط لانهيار الحكومة السورية"، ثم انشق رئيس وزراء النظام السوري رياض حجاب، والناطق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي، كما انشق اللواء الكبير المسؤول عن إيقاف الانشقاقات عبد العزيز جاسم الشلال، متهما الجيش بـ"تنفيذ مجازر ضد الانتفاضة الشعبية البريئة"، وأعلن "انضمامه لثورة الشعب".
ووثق المحققون السوريون علاقاتهم داخل الفصائل الرئيسية في الجيش السوري الحر الذي سيطر على الأراضي، ولم يكن للثوار بداية "مصلحة بالتوثيق"، بحسب وايلي، الذي أضاف أنهم "كانوا يدخلون ويسيطرون على منشأة للنظام، ثم تخرج الهواتف، ويبدأ الصراخ وإطلاق النار في الجو، ثم يأخذون ما به ويسيطرون على الأسلحة، لأن هذا ما يحتاجونه، ثم يحرقون المكان ويخرجون"، مما يضيع كل الأدلة الموجودة.
وقال وايلي أن اللجنة أخبرت الثوار: "خذوا الوثائق بداية، وضعوها جانباً حتى نستطيع إخراجها من البلاد، وضعوا ملاحظات عليها مثل متى تمت السيطرة عليها وأين، وضعوها في صناديق، وغلفوا الصناديق، بأي شريط لاصق متواجد، ثم وثقوا انتقال الوثائق، لكن لا تتلاعبوا أو تعبثوا في المواد"، لأن محامي الدفاع في المحكمة يمكن أن يجادل أن الأدلة قد تم التلاعب بها .
وعادة يتعاون المحققون السوريون مع التنظيمات المسلحة عندما يهاجمون المباني الأمنية والاستخباراتية، لكن القوات الحكومية تحاول تدمير أي ملفات لم تستطع جلبها معها، وفي الأيام التي تلي انسحابها، تبدأ "قصفا كبيرا" على المواقع الأساسية، بحسب محقق كبير مع اللجنة، كما أن الأنابيب قد تنفجر وتدمر مئات آلاف الصفحات قبل دخوله وزملائه.
وفي بعض الأحيان، يتصل الثوار بالمحققين لجمع الملفات بعد انتهاء القتال"، إذ قال وايلي إن "تسلسل النقل مهم، لكنه لا يعني الكثير في المحاكم الدولية، رغم أن الناس قد يقتلون ويصابون وهم ينقلون هذه الوثائق"، وكان أول الإصابات أثناء محاولات إخراج الوثائق هو "الساعي"، الذي أصيب وجرح عام 2012، بينما كان يجري عبر طريق تهريب بحقيقة مليئة بالوثائق.
ومنذ ذلك الحين، أصيب اثنان آخران أثناء استخراج الوثائق، وقتل أحدهم - شقيق نائب كبير المحققين مع اللجنة - في كمين للجيش السوري، وفي عام 2012، اعتقل ساعٍ وزوجته على حاجز لجبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة، إذ اكتشف المسلحون الوثائق في حقيبته، فأطلقوا سراح زوجته، لكنهم هددوه بالمحاكمة والقتل بتهمة العمالة للنظام، إلا أن اللجنة استطاعت إخراجه مقابل فدية خمسة آلاف دولار، بحسب وايلي.
وتمثل النصرة وتنظيم الدولة تهديدات للمحققين مثل النظام، إذ أنها تعتبر العلاقات مع الغرب، بالإضافة لمفهوم العدالة الدولية غير المعتادين عليه، اتهامات كبيرة، إلا أن المحققين مدربون جيداً عما عليهم عمله إذا تم اعتقالهم، كما أن المعدات التي يملكونها مشفرة ولا يستطيع أي شخص لا يعرف العمل أن يفك تشفيرها، ومن بين كل المحققين، اعتقلت مرأة واحدة، وهي مدانة الآن من قبل النظام السوري.
ويمثل نقل الوثائق للحدود أخطر المهمات في عملية "لجنة العدالة الدولية والمحاسبة"، لأن الورق ثقيل ويمثل اتهاماً لمن يحملها، كما أن الصور، الأسهل في الحمل، صعبة الاعتراف والتحديد في المحكمة.
وتصل عادة الوثائق عبر حقائب يصل وزنها إلى عشرين كيلو غرام، لـ250 صفحة، ويتم تهريبها عبر الحدود، وفقاً لوايلي، الذي أشار إلى أن هذا يتم مع الحمولات الصغيرة، في حين أن نقل الوثائق الأكثر هي عملية تحتاج مزيداً من التخطيط.
وقال وايلي أن اللجنة أخرجت من سوريا ما يقارب من 600 ألف وثيقة، تصل إلى أطنان، ولهذا فهي تحتاج عربات، والعربات تحتاج أن تمر عبر الحواجز، ولذلك فأنت تحتاج استطلاعاً، وتحديد نوع الحواجز، كما أن اللجنة تدفع للسعاة وللثوار لتأمين الدعم اللوجستي".
كما أن الدفعات الكبيرة من الأوراق تعتمد على الدول الصديقة للتفاوض على فتح الحواجز، ولذلك تبقى الوثائق مخبأة لشهور.
وفي أحد المرات، تركت آلاف الأوراق من الأدلة مع امرأة عجوز في بيت جنوب سوريا، لكن المحقق لم يوضح لها طبيعة الملفات، ولذلك قامت المرأة، ومن شدة البرد، بحرق الأوراق لتتدفأ.
وقال كبير المحققين لـ"نيويوركر" إنه في المناطق العدائية كان هو وزملاؤه يخبؤون الصناديق تحت الأرض، ويحددون الموقع، ويأملون أن يرجعوا لها بعد شهور أو سنوات، عندما يتوقف القتال، وهو ما أكده ويل الذي قال إننا "نملك كميات هائلة من الوثائق التي لا زالت في سوريا، والتي لا نحركها"، مشيرا إلى أنها تصل إلى نصف مليون صفحة.
وبالموازاة مع جمع الوثائق ونقلها؛ جند وايلي محللين عسكريين وسياسيين، ومترجمين ومحامين في أوروبا، وفي عام 2015، ارتفعت ميزانية "لجنة العدالة الدولية والمحاسبة" إلى ثمانية ملايين دولار سنوياً، وفريق عملها إلى 150 شخصاً، بما فيهم موظفين في المقر وفي مكتب تحليل الفيديوهات في أوروبا، بالإضافة للمحققين في الشرق الأوسط.
ووصلت العديد من الوثائق التي يتم تحليلها من مبان المخابرات في العاصمة دمشق، وعادة ترجع للقرارات التي قامت بها خلية إدارة الأزمة، لكنها كانت تحتاج ملاحظات ومحاضر من الاجتماعات لإتمام خط القيادة.
وقال بركات، الذي يعيش الآن في إسطنبول، إن كريس إنغلز ومحلل آخر زاره في إسطنبول لمعاينة الوثائق من خلية الأزمة، "وامضوا ثلاثة أيام يسألونني عن كل تفصيل قمت به، وتفاصيل عن الاجتماعات"، كما صوروا الأوراق المسربة، ووعد بركات بتأمينها حال انعقاد محاكمة.
وبدأت اللجنة بغربلة وثائق بركات، الأصلية والموثقة، وتحليل العلاقات بين قرارات خلية الأزمة والتحركات الإجرامية لعناصر الأمن في المحافظات المختلفة.
وبدأت مهمة تعقب العملاء السابقين للنظام، الذين يريدون توضيح أدوراهم، تصبح أكثر بساطة، بسبب انشقاق معظمهم، إذ وجد محللو اللجنة منشقين أثرياء في الخليج وتركيا وأوروبا، كما أخذوا شهادات من جنوب تركيا، من مخيم محصن بشدة، يسمى "أبايدن" يضم ضباط النظام السابق وعائلاتهم، مع أنهم غير مدرجين في هذه القضية، التي تركز على المسؤولين الأكبر.
وشبه وايلي هذه الشهادات بأنها "عشر سنتات متراكمة"، كما قالت اللجنة أنها قابلت مئتين وخمسين ضحية في مناطق عديدة لتأمين "دليل نمطي" على أن الجرائم ارتكبت بطريقة منهجية، بربطها بهذه الوثائق، إذ كان الهدف تأسيس علاقات قوية، عبر مستندات النظام والشهادات من الشهود والضحايا.
"الناشط":
في اسطنبول التقيت ناشطاً يدعى مازن الحمادة، والذي كان يمثل فرصة لتعقب أثر السياسات المحددة للنظام السوري على المدنيين، وهو ما كان النظام يحاول إخفاءه مسبقاً.
حمادة، الذي ولد عام 1977، هو الابن الأصغر لسبعة عشر طفلا في عائلة وسطى متعلمة في دير الزور، وكان مختصا ميدانيا في شركة "شلومبيرجر" الهولندية، المختصة بالدراسات النفطية، والتي عملت في دير الزور، وينتمي لعائلة من المعارضين التاريخين الذين اعتقلوا حتى قبل اندلاع الثورة، وركزوا على فشل الحكومة بردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وقال حمادة، لمجلة "نيويوركر"، في التقرير إن "النظام كان يعمل على خدمة النخبة"، وفي عام 2011، كتب رئيس مكتب الأمن القومي مذكرة سرية لرئيس خلية الأزمة، تحدث بها عن "قلة الوطنية" في دير الزور، وردها إلى "النظام القضائي الفاسد وتأجيل القضايا والمحسوبيات واللجوء إلى الرشوة لاستعداد الحقوق".
وكانت الأجهزة الأمنية في المنطقة بدون كفاءة، وموالية للأسد، ومنذ الأيام الأولى للثورة، في شباط/ 2011، أرسل رئيس المخابرات العسكرية في دير الزور، اللواء جمعة جمعة، أوامر لكل أتباعه بـ"إعداد الكاميرات لتصوير المشاركين والمحرضين ليتم تحديدهم ومحاسبتهم في المستقبل"، وهو ما استطاع محققو اللجنة الحصول عليه، من بين أوامر أخرى مرتبطة بقمع الثورة، من فرع المخابرات العسكرية في دير الزور، بعد هجره.
ونفذ رجال الأمن في دير الزور الأوامر، ففي 4 شباط، وقع رئيس مكتب الأمن القومي في دمشق أمراً "بالتحقيق والبحث واعتقال" من كتب "يسقط الأسد" على الطريق العام في دير الزور، وهو ما لم يستطع رئيس فرع الأمن السياسي تنفيذه بحسب ما رد على الفرع.
وفي 18 آذار، كان هناك مباراة في دير الزور بين الفريق المحلي "الفتوة"، وفريق "تشرين" في اللاذقية، الذي كان يفضله، إذ كان حمادة يعيش بجانب الملعب، وسمع هتافات ضد النظام، مما دفع النظام لإلغاء بقية مباريات الدوري.
وخلال شهر آذار، وصف المسؤولون في دير الزور الثورة بمصطلحات واضحة، ففي أمر لأتباعه في دير الزور، وصف جمعة المظاهرات في سوريا بأنها "متأثرة ببعض البلدان العربية التي شهدت مشاركة الشباب للمطالبة بالتغيير والحريات والإصلاح وخلق الوظائف للشباب وتحسين معايير الحياة ومحاربة الفساد".
لكن لاحقا، تبنى مسؤولو المنطقة لغة المؤامرة التي أتت من دمشق، فبعد ساعات من خطاب الأسد المتلفز في 30 آذار، وافق أعضاء لجنة الأمن في دير الزور على اعتبارها "مرجعية ونقطة فارقة في عملنا"، ومعظم قرارات المجموعة المستقبلية أصبحت متأثرة بالقلق من الخيانة، والفتنة، وتسلل الأجانب، و"المشروع الصهيوني الأمريكي".
وتحمس حمادة وأصدقائه للثورة، وأصبحوا يجتمعون في مسجد الحي، عثمان بن عفان، لتنظيم مظاهرات بعد صلاة الجمعة، فقد كانت "قضية لوجستية، وخرج الجميع من المسجد يوم الجمعة"، مضيفا "ولو استطعنا الخروج من الكنائس لخرجنا".
وبحسب المحاضر الموجودة في لجنة دير الزور، فإن أفرادها قرروا "التسرب للمساجد مع موالي حزب البعث، إذ دخل ما يقارب من مئتي شخص لكل مسجد، للتعامل مع أي قضية مرتبطة بالتحريض.
وقسمت اللجنة كل مجموعة لثلاث فرق: فريق داخل المسجد، والآخر يقوم بالاستطلاع، والثالث يظل مستعداً، لكن هذه الخطة انقلبت، إذ أبلغ محافظ دير الزور اللجنة "أن معظم الرجال الذين اعتقلوا من رجال الأمن كانوا من رجال البعث"، الذين تركوا الحزب وانضموا للمتظاهرين.
وكان حمادة يصور المظاهرات، واستجابة رجال الأمن، رغم أن النظام قطع الإنترنت عن حيه، ولذلك رفع المقاطع على اليوتيوب من مكان عمل زميله، وبعضها انتهى لمواقع عربية.
ولمكافحة نشاطات كهذه، أخبر المحافظ اللجنة الأمنية: "يجب أن نرشح خبراء إنترنت بين رجالنا للتعامل مع المواقع العدائية التي تبث السموم في البالد عبر مواقع، مثل الفيس بوك"، وبينما كانت اللجنة تناقش أهمية إظهار القمع إلا أن العنف تصاعد، إذ قال جمعة إن المتظاهرين كانوا ينشرون "إراقة الدم، سعياً لاستجلاب تدخل خارجي"، وهي نتيجة قال إنه يسعى لتجنبها.
وفي اليوم التالي، أرسل رسالة من جملة واحدة لأتباعه في المخابرات العسكرية في المحافظة: "المطلوب منكم منع رجالكم من إطلاق النار بشكل عشوائي وقتل المدنيين بشكل عشوائي".
وفي أيار، انهار الأمن في المحافظة بشكل سريع، إذ أن الرجال المسلحين بالعصي ورصاص الصيد والمولوتوف أحرقوا مركزين للشرطة وأربع سيارات وستة دراجات للشرطة، كما علمت المخابرات أن هناك شخصاً يحاول تجنيد المتطوعين لتفخيخ سيارة خارج منزل جمعة، إذ حذر رئيس الفرع الأمن السياسي في المحافظة: "قد يكون هناك موجة من الاغتيالات".
حمادة، الذي اعتقل مرتين سابقاً، استمر بتنظيم المظاهرات، لكنه بدأ يقضي الليالي في منزل آمن مع الناشطين الآخرين، كما اعتقل أحد إخوانه ولم يخرج حتى الآن، وفي لقاء مع اللجنة الأمنية، حذر جمعة أن الاعتقالات قد تكون "سيفاً ذا حدين"، وتزيد عدد الناس الغاضبين الذين يطالبون بإطلاق سراح عائلاتهم.
في نهاية أيار، أرسل جمعة عدة رسائل معبراً عن غضبه بأن المحققين كانوا يصعقون المعتقلين بالكهرباء، ويطفؤون السجائر بأجسادهم، ويضربونهم "على كل مكان بطريقة مخيفة"، ويهينونهم عبر إجبارهم على الجلوس على قناني الصودا، قائلاً إنه يرفض "احتجاز شخص من ضحايا التعذيب حتى يكون هناك تقرير مكتوب حول حالته الصحية، يتضمن أولئك المسؤولين عن اعتقاله".
وانتهى تردد جمعة في صيف 2011، إذ أن الأدلة من لجنة العدالة الدولية والمحاسبة أظهرت أن معتقلي فرع الأمن العسكري كانوا يضربون بالقبضات والكوابل والعصي حتى يفقد المعتقلين الوعي، وتتكسر عظامهم، وكانت أسنانهم تسقط، ويدحشون في عجلات السيارات، ويضربون حتى تدمى أقدامهم، ويصعقون بالكهرباء، بعد أن يصب عليهم الماء، ويغتصبون حتى يتبولوا دماً، ويضربون حتى الموت، كما شارك جمعة شخصياً في عدد من هذه التحقيقات.
"الأوامر":
في 5 آب 2011، عقدت جلسة خلية إدارة الأزمة اجتماعها المعتاد في شعبة قيادة البعث، بعد خمسة شهور من المظاهرات التي استمرت واندلعت في بقية المحافظات، وهو ما أرجعه أفراد اللجنة إلى "التراخي في التعامل مع الأزمة"، بحسب الوثائق المسربة.
وألقت الوثائق باللائمة على "التنسيق الضعيف والتعاون بين الأجهزة الأمنية المختلفة"، وقرروا تلك الليلة إعطاء أوامر محددة لاستهداف أشخاص محددين.
أولاً، على كل الفروع الأمنية شن حملات اعتقال يومية للبحث عن منظمي المظاهرات، وأولئك "الذين يشوهون صورة سوريا في الإعلام الأجنبي"، ثم "بعد أن يتم تطهير كل قطاع من الأشخاص المطلوبين.
ثانياً: يجب أن تنسق أجهزة الأمن وأعضاء البعث والمليشيات المحلية على ضمان عدم رجوع ناشطي المعارضة إلى هذه الأحياء.
ثالثاً، تأسيس لجنة تحقيق مشتركة على مستوى المنطقة، مكونة من ممثلي كل الأجهزة الأمنية، التي يجب أن تحقق مع المعتقلين، ويجب أن "ترفع النتائج لكل الفروع الأمنية، لتستخدم بتحديد الأهداف الجديدة التي يجب استهدافها".
وأصبحت هذه السياسة العمود الفقري لقضية لجنة العدالة الدولية والمحاسبة ضد مسؤولين في النظام السوري، فمع وثائق بركات من دمشق، وصفحات اللجنة الـ600 ألف التي استطاعت الحصول عليها من الدولة، استطاع المحللون تعقب هذه الأوامر ضمن سلاسل مختلفة من الأوامر من خلية إدارة الأزمة.
وأرسل رئيس خلية الأزمة هشام بختيار، رئيس المكتب الأمن القومي، هذه الأوامر إلى المكاتب المحلية لحزب البعث، الذين ترأسوا اللجنة الأمنية لكل محافظة، بالإضافة لأوامر إضافية بـ"القيام بما يجب عليكم القيام به لإنهاء الأزمة".
وأرسل رؤساء الفروع الأمنية الرئيسية - المخابرات العسكرية، المخابرات الجوية، الأمن السياسي، وإدارة المخابرات العامة - هذه الأوامر إلى الفروع المحلية والدولية، الذين مرروها لعملائهم في الأمن المحلي.
وسافر أعضاء خلية الأزمة إلى المحافظات التي تشهد توتراً للإشراف على تشكيل لجان التحقيق المشتركة، مما سهل المهمة على لجنة التحقيق، لأن "كل الأسماء كانت على كل المستندات"، بحسب وايلي.
وقال إنغلز لـ"نيويوركر": "إذا أرسلت هذه الأوامر، دون أن يكون هناك رد فعل عليها، فإن هذا يخبرنا الكثير، لأنه من الأهمية بمكان أن نرى هذه الأوامر ترجع بشكل تقارير عبر التسلسل إلى أعلى"، لتؤكد أن هؤلاء الأشخاص اعتقلوا وحقق معهم، وأن قيادة النظام السوري في دمشق التي كانت توافق، كانت على علم بالانتهاكات في مواقع الاعتقال، طوال الوقت.
وقال وايلي إن "الفشل الدائم بالسيطرة على من يتحرك بطريقة جنائية سيتم استخدامه في الاتهام، خصوصاً أن خلية الأزمة طلبت قوائم بكل المعتقلين، كما أن بعض أفراد اللجان الأمنية المحلية اتخذوا خطوات صارمة لإرضاء مشرفيهم، كما وجدت نسخة من أوامر خلية الأزمة في الرقة بملاحظة مكتوب عليها: "لقد قمنا بهذا منذ زمن".
وبحسب القانون الدولي، فإن الحكومات ملزمة بالتحقيق في تقارير انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي أيلول، أرسل المدعي العام في دير الزور ثلاثة رسائل عبر الفاكس - آخرها حصلت عليه لجنة التحقيق - للمحافظ، ووزير العدل السوري، ورئيس لجنة التحقيق المشتركة، تطالبهم بالتوقف عن انتهاك القانون السوري، إذ كتب على واحدة منها إن "أهالي وأقارب المعتقلون يسألون بشكل يومي عن مصير أبنائهم وآبائهم وإخوتهم، ويجب عليكم الاستماع لما يقولون، كما أن ثلاجة المشفى مليئة بالجثث المشوهة المتحللة لأنها بقيت هناك منذ مدة".
الاعتقال:
اسم مازن الحمادة ظهر على قائمة الاعتقال في دير الزور، بالإضافة إلى اثنين من إخوته، وأحد أصهرته، وفي شهر آذار 2012، طلب طبيب من حمادة أن يقوم بتهريب حليب أطفال لامرأة في داريا، في ريف دمشق، وجمع هو وأبناء إخوته خمسة وخمسين علبة من الحليب، وخبؤوها تحت ملابسهم، وسافروا للقائها في أحد المقاهي.
وحالما سلم الحمادة الحليب، قبضت عليه الأجهزة الأمنية مع أبناء إخوته، ووضعوا قمصانهم على وجوههم، واقتادوهم إلى سيارة كبيرة، يقول حمادة "لم يكن لدي فكرة عما كان يجري، وطول الطريق كانوا يقولون لنا: سنعدمكم".
وبعد أن عروهم حتى ملابسهم الداخلية، وضربوهم، وألقوهم في زنزانة بطول 12 قدماً، مع أربعين معتقلا آخرين، علموا أنهم كانوا في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، أحد أسوأ مراكز الاعتقال في البلاد.
وبعد أسبوعين، وضع المعتقلون في هنجار صغير، بأبعاد أقل من أربعين قدماً بعشرين قدم (13 مترا- 6 أمتار)، وكان هناك 170 معتقل، وضعت أيديهم بين أقدامهم، ويجلسون راكعين.
وقال حمادة لـ"نيويوركر": "المعتقل يتعفن هناك، حيث لا يوجد هواء ولا ضوء شمس، وتطول أظافره، لأنه لا يستطيع قصها، وعندما يحك جلده يدميه ويتقيح".
لم يكن المعتقلون قادرين على غسل أنفسهم أو تغيير ملابسهم، وملأت التقرحات أجسادهم.
وفي المعتقلات الأخرى عبر البلاد، كان المعتقلون يشربون مياه المحاريض، ويموتون من الجوع والتسمم والأمراض، مما دفع الناس للجنون وفقدان ذاكرتهم، بحسب حمادة، الذي وضع أخيراً في زنزانة اعتقال انفرادية مع عشرة آخرين.
في أحد الأيام، تمت تغطية عيني حمادة واقتيد إلى غرفة للتحقيق، وبدأ المحقق، الذي قال حمادة أن اسمه سهيل، بتحديد هويته، إذ يعتقل الكثير ويعذبون رغم كونهم اعتقلوا بالخطأ.
عندما سأل سهيل عن معلومات حول ناشطين آخرين التقاهم حمادة في دمشق، تردد حمادة، فبدأ التعذيب، إذ أن "أول شيء كانوا يستخدمونه هو السجائر التي أطفؤوها على قدمي"، وكانوا يصبون عليه الماء ويصعقوه باستخدام أسلاك وأقطاب، فاعترف أخيراً بأسماء أصدقائه الذين قتلوا في دير الزور.
وكانت هذه الأسماء مجرد البداية، إذ سأله سهيل: "كم شخصا قتلت من الجيش العربي السوري؟"، ورغم اعتراف حمادة بتنظيم المظاهرات ورفع الفيديوهات والحديث للإعلام الأجنبي، كانت الصعوبة في: "كيف تختلق قصة قتل هؤلاء الأشخاص؟".
وبدأ الشبح، حيث علقت يدا حمادة في أنبوب في السقف، وبقيت أقدامه مرتفعة بمسافة 16 ياردة عن الأرض، فأصبح كل الثقل على يديه، "ثم بدأت أشعر بأن الأصفاد بدأت تجرح يديه، وبقيت لذلك أكثر من نصف ساعة، ثم بدأت بالصراخ واستمررت بالصراخ حتى وضعوا حذاء عسكرياً في فمي".
وكانت هذه الطريقة تستخدم في الفروع الأمنية، بـ"تنويعات مختلفة"، إذ أن العديد من المعتقلين كانت أيديهم تعلق وراء ظهورهم، وبعضهم كان يترك لأيام، وآخرون يتوقفون عن التنفس.
وأخبر مساعدو سهيل حمادة بأنه إذا اعترف بحمل الأسلحة فسيطلق سراحه، ولأنه لم يعترف، فقد كسرت أربعة من ضلوعه، وفي تلك الحالة، وافق على الاعتراف بحمله سلاح صيد، فتركوه، لكن هذا لا يتسق مع جرائم الإرهاب، فعذبوه جنسياً ليعترف بحمله "كلاشينكوف"، واستمر التعذيب حتى اعترف حمادة بكل شيء أرادوا منه أن يعترف به.
وفي كل مقابلات الشهود، وجدت "لجنة العدالة الدولية والمحاسبة"، أنماطا ثابتة للتحقيق في كل الفروع عبر البلاد، فقد كانوا يعتقلون بحسب سياسة "خلية الأزمة".
وبجانب تحديد أهداف جديدة، كانت نتائج هذه التحقيقات تشارك مع الأجهزة الأخرى، وكان المعتقلون يظلون في ظروف غير إنسانية لشهور أو سنوات بدون دخول محاكمات قضائية.
ولم تكن الاعترافات بالإكراه تستخدم لأهداف أمنية، لكنها أعطت غطاء قانونياً لعملية الاعتقال، فقد كان الاعتراف بالجرائم يضع الناشطين المضادين للحكومة أمام احتمال مواجهتهم لتهم خطيرة، وإذا تم إدانتهم، فقد يظلون في الاعتقال لسنوات، كما استخدمت هذه الاعترافات كإيهام ودعاية للحديث عن مؤامرة ضد سوريا، إذ أجبر المعتقلون على الاعتراف بالمشاركة بالخيانة أو التحريض على شاشة التلفزيون.
ووصل هذا التعذيب إلى بعض المحققين كذلك، ففي أكثر من حالة، كان المحقق يرجو المعتقل أن يعترف بالجريمة ليتوقف عن إيذائه.
وأكد كريس إنغلز هذه الفكرة قائلاً : "هناك فكرة أنهم يجب أن يحصلوا على نتائج، فالأدلة على أن بعضهم لم يقم بما عليه كانت حقيقية، وهناك أدلة على أن هناك أشخاصاً لم يقوموا بذلك".
وكان الخط الأخير من سياسة استهداف خلية الأزمة هو أمر رؤساء الأجهزة الأمنية بـ"إعطاء مكتب الأمن القومي بشكل دوري أسماء عناصر الأمن المترديين أو غير المتحمسين"، الذين اعتقل بعضهم.
وبعد شهور من التعذيب، وضع حمادة و ابن أخيه بصماتهم على تقاريرهم، التي تضمنت اعترافاتهم بالتأكيد، رغم أنهم لم يستطيعوا التأكد لأنهم ممنوعون من قراءة تقاريرهم.
ووقف ولد عمره 17 عاماً بجانب حمادة وفهد، وعندما علم الحراس أنه من داريا، ضربوه حتى سقط على الأرض، وجلب أحدهم شعلة وأحرقوا الطفل كاملاً، بحسب حمادة، ثم التفوا عليه، وأحرقوا رقبته وكل جسمه، و قال حمادة: "لقد كان وجهه يذوب".
وقال مراسل "نيويوركر" إن عيون حمادة أصبحت حمراء، وبدأ صوته يخفت، ثم أجهش بالبكاء، عندما تذكر الطفل، الذي ظل يحاول ليومين مع المعتقلين الآخرين تضميد جراحه، ثم مات بين يديهم، وعندما أتى الحراس لأخذ جثته، صرخ حمادة بهم، فشبحوه لعدة ساعات، حيث قال : " إنك تريدهم أن يقتلوك بأي طريقة، لتنتهي من كل هذا، لأنك تعبت من التعذيب والنوم والاستيقاظ والعيش هكذا كل يوم".
المشفى 601:
بداية 2013، وبعد عام تقريباً على الاعتقال، استلقى حمادة على أرضية الهنجار، فبعد استدعائه والتحقيق معه لسبعة أو ثمانية مرات، أصابه مرض في عينيه وأصبحت تدمع قيحاً، وأصبح الجلد على قدميه مميتاً.
وبينما كان المعتقلون يقفون كلما دخل الحارس، لم يعد حمادة يستطيع، فقد وصل الأمر إلى "التبول دماً"، بحسب قوله، مما دفع رئيس التحقيق لإرساله إلى "المشفى 601" العسكري الموجود في سفح جبل المزة، ويطل عليه القصر الرئاسي.
وكان حمادة قد سمع بهذا المشفى، فقد أرسل إليه بعضهم المعتقلين، وقليلون من عادوا منه، فتوجس، لأن "هذا ليس مشفى، بل مسلخاً"، وبالرغم من حالة حمادة، فقد ضربه الحراس أثناء أخذه للمشفى، واستخدم أحدهم الأنبوب "الأخضر"، الذي كان الحراس يسمونه بـ"الأخضر الإبراهيمي" نسبة للمبعوث الأممي إلى سوريا حينها.
وفي ممر المشفى، كان الممرضون الذكور والإناث يضربونه بأحذيتهم ويدعونه بالإرهابي، وعندما وصل إلى جناحه، ربط في سريره مع سجينين آخرين، وطلبت منه ممرضة اسمه، ثم ضربته بعصا.
وأشار تقرير للأمم المتحدة ذلك العام أن بعض الموجودين في المشافي يساهمون بتعذيب المعتقلين في المشفى 601.
وفي تلك الليلة، استيقظ حمادة وهو يطلب الذهاب للحمام، فضربه الحارس طيلة الطريق لهناك، لكنه ذهب لوحده، وعندما فتح الحجرة الأولى، وجد رتلاً من الجثث، المشوهة والزرقاء، ثم وجد اثنين آخرين في الحجرة الثانية، بدون أعين، وكان هناك جثة أخرى في حوض، فخرج فزعاً، لكن الحارس أعاده لهناك، وقال له "تبول فوق الجثث"، فلم يستطع، وبدأ يشعر أنه يفقد الإحساس بالواقع.
وبحسب تقرير للجنة الأمم المتحدة، كانت جثث المعتقلين "تحتجز في الحمامات" في عدة فروع أمنية في دمشق.
لاحقاً تلك الليلة، بحسب حمادة، مشى حارسان سكرانان إلى عنبره، وبدأوا يسألون: "من يريد دواء؟"، فرفع بعض المعتقلين أيديهم، فاختار الجندي معتقلاً متحمساً، وبدأ يضرب السجين على رأسه حتى فتحه، ثم سحب النخاع الشوكي من رأسه، وأمر مريضاً آخر بسحبه للحمام.
وقالت الأمم المتحدة إن العديد من المرضى عذبوا حتى الموت في "المشفى 601"، وكان هذا الجندي يسمي نفسه "عزرائيل"، ويتذكره ناجون آخرون كانوا يعذبون المساجين بطرق مشابهة.
وقال حمادة إنه عندما رأى هذا تأكد أن هذا مصيره، فبدأ يطلب من أحد الأطباء أن يرجعه لفرع المخابرات الجوية، رغم أن الطبيب قال له إنه لا يزال مريضاً، فأكد له أنه قد تعافى، فأرجع في اليوم الخامس خارج المشفى، مع نفس الحراس الذين أدخلوه، فكانوا يضربونه ويشتمونه لأنه لم يمت، ثم شبح لأربعة ساعات.
في حزيران 2013، أحيلت قضية حمادة للقضاء، ونقل إلى سجن عدرا المركزي في دمشق، حيث عرض ملفه لإثبات القضايا ضده (لأن السجون السورية تحت الإشراف القضائي، والفروع الأمنية ليست كذلك)، وكان الرد أنه اعتقل بـ"تهمة الإرهاب وأنه محروم من الحرية منذ 5 حزيران 2013"، بنفس التاريخ، وكأن الخمسة عشر شهراً التي قضاها في المخابرات الجوية لم تكن.
وفي الساعات الباكرة من 21 آب، أطلقت الحكومة السورية صواريخ تحمل غاز السارين على أحياء غوطة دمشق، وقتلت أكثر من 1400 شخص، ورداً على ذلك، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن "الأسد قد تجاوز الخط الأحمر، وسنتخذ إجراء عسكرياً ضد أهداف للنظام"، قائلاً إنه ينتظر موافقة الكونجرس، وهو ما لم يحصل لاحقاً.
وبعد الهجوم الكيماوي بقليل، نقل حمادة والعديد من المعتقلين إلى المزة، بدون توضيح، وبدأ عناصر الأمن بنقلهم إلى هنجار فارغ كبير، حيث يعتقد أن أحد الصواريخ التي كانت تحمل السارين أطلقت من قاعدة المزة، التي كان يتوقع أنها هدف للضربات الأمريكية، وداخله كان الحراس يسخرون من المعتقلين قائلين إنهم سيموتون لو تعرضت سوريا لضرب أمريكي.
وفي بداية أيلول، تخلت الولايات المتحدة عن فكرة الحملة العسكرية، وأعيد حمادة لمحكمة الإرهاب في دمشق، حيث حصل اخيراً على جلسة استماع.
وفي الجلسة، أشار القاضي إلى أن حمادة اعترف بمهاجمة المواقع العسكرية وقتل الجنود، فأظهر له مواقع حرق السجائر في قدميه، ويديه النازفتين، وظهره النازف، في مشهد معتاد داخل المحاكم السورية، فحكم القاضي ببراءته.
قبل إطلاق سراحه، تم التحقيق معه من عناصر الأمن السياسي، وسألوه عن المظاهرات التي شهدها قبل عامين، فاعترف: "نعم، كنت متظاهراً، وشتمت الأسد"، مضيفاً: "لقد كنت في الجحيم، وإذا كنتم تريدون اعترافي فخذوه"، وعندما أرجعوه للمحكمة، أسقط القاضي قضيته.
وعندما عاد حمادة إلى دير الزور، وصفها بـ"مدينة أشباح"، فبعد عامين من القتال الكثيف والضربات الجوية، تدمرت معظم المباني، كما سقطت مئذنة مسجد عثمان بن عمان، ولا زال اثنان من أبناء إخوته معتقلين في المخابرات الجوية، في دمشق، واختفى أفراد آخرون من المواقع الأمنية.
وبعد وصوله إلى دير الزور، وظهور تنظيم الدولة هناك، وتحول الأزمة السورية لحرب أهلية، قرر حمادة الهرب إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، وسافر أكثر من 1700 ميل إلى هولندا، حيث كانت أخته هناك قبل الحرب، في رحلة لا يكاد يذكرها، مقابل ما مر به.
صور قيصر:
ما دعم سجل الفظائع في "مشفى 601" ما يقارب 55 ألف صورة، هربت من سوريا على يد ضابط في الشرطة العسكرية يعرف نفسه باسم "قيصر".
قبل الحرب، كان قيصر وزملائه يوثقون مواقع الجرائم وحوادث السير، بما في ذلك عناصر للجيش في دمشق، ويضعون الصور على حواسيب الحكومة، ثم يطبعونها ويضيفونها لتقارير الوفاة الرسمية.
وفي 2011، أصبحت هذه الجثث للمعتقلين، وجمعت كل يوم من الفروع الأمنية، وسلمتها للمشافي العسكرية، وفي "المشفى 601"، صور فريق قيصر الجثث في المشرحة وفي الكراج، وكل جثة كانت تعطى رقماً، عادة من أربع أرقام - مثل رقم حمادة 1858- وتوضع على رقم وتلصق على صدره أو على جبهته بخط عريض.
ويظهر رقم آخر الفرع الذي قتل به المعتقل، إذ كان هناك ما يقارب 11 ألف جثة، وكان فريق قيصر يوثق في بعض الأيام أكثر من 50 جثة، تكون إما هزيلة، مشوهة، مقطوعة، محروقة، مطلقاً عليها الرصاص، مضروبة، مخنوقة، مكسورة، مذوبة.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة، بعد أن ينهي فريق قيصر التوثيق، يكتب أحد الأطباء عادة "جلطة قلبية" في شهادة الوفاة، ثم تجمع الجثث وتلقى بعيداً، وفي حالات نادرة كان أفراد العائلة قادرين على الحصول على الجثث، بعلامات تعذيب كبيرة.
وتابع التقرير: "بعض الجثث كانت تسلم من المستشفى فقط في حالة توقيع العائلة بياناً يؤكد أن ابنهم اختطف وقتل على يد الإرهابيين".
واستطاع قيصر الهروب من سوريا في آب 2013، بعدد من الفلاشات التي خبأها في جواربه، وبقيت الصور سراً حتى استطاع التحدث لفريق من المحققين الدوليين والخبراء، في كانون الثاني الذي تلاه.
وبدون رابط يحدد اسم المعتقل برقمه، فإن تحديد هذه الجثث صعب، لأن معظم الوجوه مشوهة، و العيون مقتلعة، ونشر نشطاء مقربون من قيصر بضعة آلاف صور، مما سمح للعائلات بمعرفة مفقوديها، إذ وجدت بعض العائلات أنها كانت تدفع رشاوى لتأمين تعامل محترم للأقارب الذين قتلوا قبل ذلك.
حتى الآن، تم تحديد 730 ضحية، استطاع حمادة تمييز بعض من كانوا معه في الزنزانة عبر هذه الصور، وبين صور قيصر، وقضية "لجنة العدالة الدولية والمحاسبة"، قال ستيفن راب إنه "عندما يأتي يوم العدالة، نحن نملك أدلة ممتازة لم نحصل عليها منذ قضية نورمبيرج".
ويعتقد وايلي وإنغلز إن القضية إذا ذهبت إلى المحكمة، فإن اللجنة تملك أدلة لإدانة الأسد وحلفائه بعدة تهم وجرائم ضد الإنسانية، منها القتل والتعذيب وبعض التصرفات غير الإنسانية الأخرى.
وعندما سئل الأسد في مقابلة لمجلة "فورين أفيرز" حول صور قيصر، أجاب: "من قال إن هذا تم على يد الحكومة وليس الثوار؟ من قال إن هذا ضحية سورية وليس شخصا آخر؟".
وفي 2011، قالت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق إن طفلا عمره 13 عاماً اسمه حمزة الخطيب، قتل تحت التعذيب في المعتقل، وردت لجنة التحقيق السورية إن "مصوراً قضائياً صور ستة صور ملونة للجثة، وأعطيناه الرقم (23) ولم نجد علامات ضرب أو تعذيب، وقتل الطفل بإطلاق نار، غالباً من زملائه الإرهابيين".
ووجد فريق التحقيق السوري أن الطبيب الذي قال إن العضو الذكري لحمزة الخطيب قتل "أخطأ بالقضية مع تحليل سابق".
وتضمنت صور قيصر ست صور لجثة الخطيب، تظهر عيونه مقلوعة ومغلقة، ورأسه بنفسجياً بشدة من الضرب، وعضوه الجنسي مقتلعاً، وفي كل الصوار، كان هناك رقم 23 على هذه الصور.
ورد المبعوث السوري للأمم المتحدة بشكل رسمي على فريق التحقيق الأممي في سوريا، بقوله إن "ادعاءات الاعتقال التعسفي والتعذيب في سوريا لم تعد ذات مصداقية"، مضيفاً بأنه "لا يوجد معتقلون بشكل غير قانوني في سوريا بسبب التظاهر السلمي، وإذا سألتم أفراداً استخدموا السلاح أو قاموا بالتحرك الإرهابي في سوريا، فهذه قضية أخرى".
وبعد شهور من الرسالة، قال الأسد لباربرا والترز أن مشاركة سوريا بالأمم المتحدة هي "لعبة نلعبها، وليست شيئا نعتقد به".
هذا وانطلقت هذا الأسبوع جولة جديدة من المفاوضات بين النظام السوري والمعارضة في جنيف، حيث لم يلتق الوفود بشكل مباشر بعد، وقبل المفاوضات، أخبرني بركات، المسؤول السابق في دمشق، أن وفد المعارضة طلب نسخاً من الوثائق التي سرقها من الحكومة السورية، إلا أن الوفد فشل بتأمين شحنة.
وبينما يسترجع النظام السوري أراضٍ خسرها لصالح الثوار، أصبح سقوط نظام الأسد أقل احتمالية، إذ أعلن وزير خارجيته وليد المعلم أننا "لن نناقش أي شخص يتحدث عن الرئاسة".
ورفض وايلي وفريق اللجنة الحديث عن أي تغيير للنظام في سوريا، إذ أنهم "لا يريدون أن يعلقوا في سراديب سياسة" إنهاء الحرب السورية، فهم "ببساطة واثقون أن عملهم سيرى النور يوماً ما، في المحكمة ".
أما حمادة فيتلقى علاجاً طبيعياً في هولندا ليشفي ضلوعه المتكسرة، كما أنه يدرس الهولندية، وينظم لمظاهرات مضادة للأسد في الساحات، متسائلاً عن مصير أخيه وأصدقائه المفقودين، وهو يبكي قائلاً: "هل هم أحياء؟ هل هم أموات؟"، قائلاً : " إن كل يوم مأساة... إنه موت... إنها حياة من الموت".