بلدي نيوز - (تركي مصطفى)
مقدمة:
شهدت مناطق محيطة بالعاصمة دمشق وأخرى تتبع ريف محافظة حمص استهدافا إسرائيليا بالصواريخ لمواقع الميليشيات الإيرانية، فجر الاثنين، ويأتي هذا التصعيد بعد الاجتماع الثلاثي الأمني الذي جمع روسيا وإسرائيل والولايات المتحدة في القدس المحتلة، الذي خصص لبلورة حلول دائمة للعديد من الملفات في القضية السورية، وفي مقدمتها الوجود الإيراني، الذي يعتبر أقوى التشكيلات المسلحة في المناطق الخاضعة لنفوذ الأسد. هذا التصعيد العسكري الإسرائيلي، ليس الأول من نوعه، فقد سبقه عدة ضربات جوية نفذتها الطائرات الإسرائيلية خلال العام الجاري والفائت، في دمشق وحمص واللاذقية والقنيطرة، ولكن الفرق بين التصعيد العسكري الحالي وما سبقه، أن إسرائيل هذه المرة، تتسلح بموقف دولي صرح به نتنياهو "نحن مصممون على إخراج إيران من سوريا. إننا نتطلع إلى أن تخرج جميع القوات الإيرانية التي دخلت سوريا. هناك توافق بين الدول العظمى".
وبعد مرور أسبوع على "لقاء القدس"، يبدو للمتابعين عقب القصف الإسرائيلي لمواقع الميليشيات الإيرانية، أن نتائج اللقاء تظهر ثمار اتفاق بين ثلاثي القدس فيما يتوقع الخلاف بين روسيا وإيران على نحو سيؤول إلى مواجهة مسلحة عنيفة، تقصي بها موسكو طهران من المشهد السوري، إلا أن ذلك لم يحدث إلى الآن، لأسباب استراتيجية وأخرى عسكرية تخص أطراف الصراع السوري، بدليل ما يصدر عن وسائل إعلام الجانبين. و قد استبقت إيران اجتماع القدس بزيارة قام بها سكرتير المجلس الاعلى للأمن القومي الايراني علي شمخاني الى العاصمة الروسية موسكو للقاء نظيره الروسي، قبل أيام فقط من الاجتماع الذي استضافته مدينة القدس بين مسؤولي الأمن القومي الاميركي والروسي والاسرائيلي والذي ركز على جدول أعمال محدد يتمحور حول سوريا وآلية التعامل مع الوجود الايراني في هذا البلد، وتنسيق المواقف بين الأطراف الثلاثة، وتقديم كل التسهيلات من أجل تحريك آلية الحل السياسي تحت سقف حفظ المصالح المتباينة.
دواعي تمسك روسيا بإيران
مع كل منعطف مرت به القضية السورية، كان الحديث يتركز على اتساع فجوة الخلاف بين روسيا وإيران، خاصة مع التنافس الروسي الإيراني للاستفراد بمكامن القوة، تحسبًا لأي تحول يضعهما في مواجهة مباشرة ضد بعضهما البعض، ويبدو أن موسكو تسعى لاستثمار مكاسب الحرب في المنطقة عموما وسوريا على وجه الخصوص، ليس في إطار ما يرشح من تسريبات حول اقتراب الصراع والتنافس مع إيران، في ظل تركيز وسائل الإعلام الدولية على لقاء القدس، والإيحاء بأن الوضع أوشك على الانفجار بين الجانبين. بعد أن اتفق الثلاثي على إطلاق يد روسيا عسكرياً في سوريا، والدعوة إلى انسحاب كافة القوى الأجنبية بما فيها التركية من سوريا، وبالتالي نسف مسار آستانا واتفاق سوتشي، والبدء بعملية سياسية تراعي مصالح روسيا في سوريا، ويقبل بها المجتمع الدولي وفق قرارات جنيف بعد إفراغها من مضمونها بما يتناسب والنفوذ الروسي، وإغراء روسيا، في تقليص واشنطن العقوبات المفروضة عليها. والمساهمة الأميركية في إعادة الإعمار في سوريا، وإحكام السيطرة الروسية على مناطق الحدود السورية مع "إسرائيل" وتأمينها من تهديدات الميليشيات الإيرانية وذلك بدفعها بعيداً عن الجنوب السوري، واستنزاف فصائل الثورة وميليشيات نظام الأسد، في جبهات متعددة، لإنهاكها وإرهاقها للدفع التدريجي بها إلى القبول بالحلول الروسية.
من هنا، فقد كشفت تطورات الصراع الدائر في سوريا أن التعاون القائم بين روسيا وإيران، سواء في إدارة المناطق الخاضعة لهما، أو في المواجهة العسكرية والسياسية ضد فصائل المعارضة السورية، وموقف روسيا من الحصار الاقتصادي لإيران، ينطوي تحت يافطة التعاون بين البلدين، فيما تتلخص موانع النفوذ الروسي للحدّ من الوجود الإيراني بالمرتكزات التالية:
اتساع النفوذ الروسي في سوريا والمنطقة بدعم إيران:
مع بدء التدخل الروسي في سوريا أيلول /سبتمبر 2015، امتطى الروس استراتيجية إيران الهجومية في إجهاض الثورة السورية، من خلال دفع إيران بالآلاف من الميليشيات المزودة بالأسلحة الروسية النوعية الثقيلة، وتسخير الطيران الروسي بكافة أشكاله للتمهيد أمام تلك الميليشيات، ومن ذلك: الحملة الجوية الروسية ضد ريف حلب الجنوبي والشمالي في خريف العام 2015 والتي انتهت بالسيطرة الإيرانية الروسية على مدينة حلب وأغلبية أريافها، ومثَّلت هذه الاستراتيجية امتدادًا لاستراتيجية إخضاع المناطق الأخرى، خصوصًا معارك إسقاط مناطق خفض التصعيد، وهكذا كانت كل محاولات السيطرة على المدن الأخرى. من هنا، لعبت إيران دورا كبيرا في تمكين روسيا من الهيمنة على غالبية المناطق السورية الخاضعة لنظام الأسد، ويتجسد ذلك بالتالي:
ـ إحكام القبضة على ميليشيا الأسد وأجهزته الأمنية، وربطها بمركز النفوذ الروسي في قاعدة حميميم.
ـ امتداد النفوذ الروسي في مناطق سيطرة إيران وبالأخص لبنان والعراق واليمن وهي البلدان الواقعة تحت سطوة الميليشيات الإيرانية سواء الحشد الشعبي في العراق، أو حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن.
استثمار روسيا لإيران في تمتين علاقتها بإسرائيل
استثمرت روسيا علاقتها التخادمية مع إيران في توثيق روابطها بإسرائيل، التي باتت تعتمد على روسيا لاحتواء إيران أكثر من اعتمادها على واشنطن. وأدركت إسرائيل أن التدخل العسكري الروسي في سوريا مؤشر على صعود تأثير موسكو في البيئة الإقليمية، فبادرت إلى إرساء تفاهمات معها بهدف منع نقل أي أسلحة نوعية من سوريا إلى لبنان، ولتحول دون وصول الحرب إلى حدودها، ولتستمر في هجماتها العسكرية في الساحة السورية متى شاءت ذلك. وهذه العلاقة أسهمت في ضمان مصالحها الأمنية على الجبهة الجنوبية، مع الحفاظ على توازن المصالح بين إيران وبين إسرائيل؛ حيث باتت إيران قوة إقليمية تحتاج روسيا إلى أخذ مصالحها بعين الاعتبار. من هنا تسعى إسرائيل للحفاظ على العلاقة مع روسيا؛ وذلك بسبب أن الأخيرة تملك أوراق ضغط كبيرة فهي المزوِّد الأساسي للسلاح لإيران ونظام الأسد، وعلاقتها مع روسيا مهمة في هذا المجال؛ فقد نجحت إسرائيل مرارًا بمنع تزويد سوريا بصواريخ متطورة مضادة للطائرات بسبب هذه العلاقة، وفي نفس الوقت تتفهم إسرائيل المصالح الروسية في المنطقة ومحدودية قدرتها على التأثير العميق على السياسات الروسية ولأهمية روسيا لإسرائيل، وخاصة في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها المنطقة على المحور الإيراني، وقد قام نتنياهو بزيارة روسيا أكثر من مرة خلال العام 2019، حتى تمكن مؤخرا من عقد اجتماع القدس الذي ضم الولايات المتحدة وروسيا إلى جانب إسرائيل، وكان جدول المباحثات الأساسي هو الوجود الإيراني في سوريا، وأوضحت إسرائيل من خلال هذا الاجتماع مصالحها في سوريا، والتي تتمثل في: منع نقل أسلحة من سوريا إلى حزب الله، وإبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود السورية الجنوبية، و"حق إسرائيل" في الدفاع عن نفسها أو توجيه ضربات استباقية لعمليات إيرانية موجهة ضد إسرائيل من المناطق السورية. وبالفعل شنَّت إسرائيل، بعد أقل من أسبوع على لقاء القدس الثلاثي، هجومًا على مواقع الميليشيات الإيرانية وتلك التابعة لنظام الأسد في العاصمة دمشق وحمص، وهو ما يدل على حرص روسيا على عدم المساس بالمصالح الإسرائيلية التي حددتها الأخيرة لنفسها قبل التدخل الروسي، وفي الوقت ذاته فقد استثمرت إيران التواجد الروسي بما ُيعزِّز "المحور الشيعي" في المنطقة على حساب الأكثرية السنية. وبذلك فإن روسيا تمكنت من إيجاد توازنات في تفاهماتها مع إسرائيل في إطار ثوابت استراتيجية، وبقيت تفاهماتها مع إيران في سياق تقني فرضته الأوضاع الأمنية في سوريا.
روسيا ومعضلة القوة الإيرانية
أشار كاتب هذا المقال في وقت سابق في "شبكة بلدي" (6/6/2019) إلى أن ما تدركه موسكو أن إيران لا تزال هي القوة العسكرية الأولى المهيمنة على المناطق الواقعة تحت نفوذ نظام الأسد؛ فالميليشيات الإيرانية تسيطر على مفاصل العاصمة دمشق، وتنتشر قواعدها العسكرية بمحيطها، وعلى التلال المشرفة على الجولان السوري المحتل، وتحتضن معامل الدفاع بمنطقة السفيرة في الشمال السوري أكبر القواعد الإيرانية. وتنتشر قوتها الضاربة أيضا في منطقة البادية والضفة اليمنى للفرات، كما تمكنت من ترسيخ نفوذها عبر شبكة من المصالح المشتركة، استأثرت المذهبية الطائفية على الجانب الكبير منها، ومنحت امتيازات استثمارية على شكل رشاوى للعديد من ضباط الأسد الذين يتحكمون بالمؤسسة الأمنية، وعلى رأسها المخابرات الجوية، وكذلك لقيادات الميليشيات المحلية المتشيعة كلواء الباقر، كما اشترت ذمم كثير من الشخصيات الاجتماعية والثقافية النافذة، مكوِّنة بذلك قوى محلية في سوريا دافعة لقوتها الأولى في المنطقة، التي تتمثَّل بميليشيا حزب الله اللبناني. من هنا تدرك روسيا حجم المعضلة الإيرانية في حال حدوث الصدام العسكري المباشر مع الميليشيات الإيرانية، ولهذا علق الناطق باسم الكرملين على الاجتماع، بقوله "ما كنت لأستبق الأمور، ولن أفعل. لكنني أدعو الجميع للحذر الشديد حيال الحشو ومختلف الأنباء الكاذبة، التي من المؤكد أنها ستملأ الفضاء الإعلامي"، ولذلك لن تجازف موسكو بقبول الصفقة الأميركية التي كانت على جدول الأعمال الروسي - الأميركي، ضمن محادثات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع بوتين في سوتشي الروسية قبل أقل من شهر، لهذا كانت الدعوة لأجل اتفاق واشنطن وموسكو وتل أبيب على عقد اجتماع بين رؤساء مجلس الأمن القومي في الدول الثلاث، بعد أن باتت موسكو مقتنعة أنها تستند إلى ورقتين محروقتين: الدور الإيراني ونظام الأسد.
مآلات "لقاء القدس" والقرار الاستراتيجي
على الرغم مما سبق، ومع ما تواجهه الشراكة الروسية الإيرانية من تحديات، وما يدور بينهما من تنافس قد يفضي إلى اتساع الفجوة بينهما، إلا أن روسيا لا تستطيع الخروج عن إطار استراتيجية الصراع بخطوطها العامة، ولا يمكن لها مواجهة التحولات داخل سوريا والمنطقة. وما تسرب عن اجتماع القدس الذي ضم "الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل" كان هدفه الرئيس طرد الميليشيات الإيرانية من سوريا وتحجيم نفوذها في المنطقة وما تبقى من تفاصيل اللقاء هو لتبادل وجهات النظر في إطار تحضير كل طرف لما يريده من الآخر. قرار لقاء القدس المعلن، لا يرتبط بحماية الأمن الإسرائيلي، ولا حتى بإيران، والتي أنهت مهمتها القذرة، حين وضعت نفسها تحت تصرف القوة الغربية لتفتيت المنطقة، وخاضت حروبا عديدة لخدمة الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، وكذلك كانت البوابة الرئيسية لدخول روسيا المنطقة ووصولها السهل إلى مياه المتوسط الشرقية، فالقرار الاستراتيجي الغربي يأتي في سياق تاريخي منع بروز أية قوة قادرة على إعادة صياغة تركيب منطقة الشرق الأوسط، حيث بقيت ثوابت الاستراتيجية الغربية دون تبدل منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، فقد أجهضت ثلاث محاولات في المنطقة؛ تجربة محمد علي باشا المصري في تشكيل قوة عربية تقوم على أنقاض السلطنة العثمانية (1830- 1841م)، ومحاولة عبد الناصر القومية الوحدوية "1958- 1961م) وقضت عليها نهائيا في حرب العام (1967م)، والتجربة الأخيرة كانت لصدام حسين عندما حاول بنظرية البعث العراقي، بناء قوة تقنية مستقلة (1979-1990) وحطمت الدولة العراقية عام (2003م).
بعد هذا كله، تدرك روسيا أنه لم يعد هنالك ما يبرّر لها التمسك بإيران شريكاً في سوريا، وقد انكشفت نواياها في معارك حماة، حيث استغنت عن خدمات الميليشيات الإيرانية، ولم يتبق أمام إيران من مخرج سوى مغادرة المشهد السوري، فقوتها اليوم ليست بقدر ما كانت عليه قوة محمد علي المصري في حينه، ولا عبد الناصر أو صدام حسين، فالمنطقة الواقعة تحت سطوة النفوذ الدولي، لا يمكن لدولة طائفية ذات مهام قذرة كإيران، مهما بلغت من قوة أن تبتلعها.