بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
مقدمة
تستمر الطائرات الروسية وطائرات الأسد باستهداف المناطق المحررة في منطقة "خفض التصعيد الرابعة"، كخيار ضرورة لسوق الجميع إلى منصة مخرجات "آستانا" عبر قتل الأطفال والنساء، وتدمير المدن والقرى، والتوسع في مناطق لم تكن خاضعة للأسد، كمؤشر واضح على وضع روسيا خيار الحسم العسكري موضع التنفيذ بعد رفض قوى الثورة السياسية والعسكرية مشروعها السياسي العلني في إبقاء الأسد على رأس سلطة الأمر الواقع.
ويضاعف من تأكيد هذا الخيار أجندة موسكو العلنية في مصادرة مضامين القرارات الدولية، ومنها بيان جنيف1، وقرارا مجلس الأمن 2118 و 2254، هذا ما تشي به الحملة الجوية الروسية والتعزيزات العسكرية للميليشيات التي تصل تباعاً إلى المناطق المحررة، والمعارك الملتهبة في أرياف إدلب وحماة وحلب، وتأتي كل هذه التطورات في إطار التحضير التدريجي لمتابعة قضم المناطق المحررة، ولكن يمكن القول الآن إن الروس في سوريا وبعد أربع سنوات من الاحتلال، وعشرة أيام من القصف الجوي الهمجي الممنهج ضد المناطق المحررة في أرياف إدلب وحماة واللاذقية وحلب؛ نجحوا في قتل المئات وتهجير عشرات الألوف من أهالي المناطق المذكورة، ولكنهم أخفقوا في إيجاد موطئ قدم راسخة فيها ولن يتمكّنوا من ذلك، بالمواجهات المسلحة الجارية المقترنة بحملة القصف العشوائي المدمّر، والتي كان أنموذجها معركة "تل عثمان والجنابرة وكفر نبوذة" التي كلفت الروس ونظام الأسد عشرات القتلى والجرحى والكثير من خسائر العتاد، فالمسألة الآن تتعلق بما سيُبادر به الروس بعد هذا العدوان.
يناقش هذا الملف العدوان الروسي على منطقة "خفض التصعيد الرابعة" في إطار المعارك الناشبة فيها، ونستعرض بتحليل موجز لأهمية هذه المناطق في بعدها العسكري المتصل بنتائج المعركة وأهدافها، ثم يتناول الملف بالتحليل جوانب هذا العدوان (الخطط والتفاعلات والنتائج)، كما يقف على آفاقه المحتملة اعتمادا على توجه عجلة المعارك ومحركاتها التي جعلت من الحرب في سورية كما لو أنها تجري في طريق لا نهاية له.
تشهد المعارك الدائرة في أرياف (حلب الجنوبي وحماة الشمالي الشرقي وإدلب الشرقي)، سلسلة تطورات بين الأطراف المتحاربة على ضفتي الجبهة المشتعلة، تدعمها حملة جوية روسية غير مسبوقة تمهد أمام مجاميع من الغزاة الإيرانيين ومحاليفهم من شبيحة الأسد ومرتزقة لبنانيين وعراقيين، لتتسع معها الأرض المسيطر عليها، وتضيق أحيانا مقابل إمكانيات المقاومة التي تبديها فصائل المعارضة والثورة السورية، وتتزايد مخاطر التهديدات بعد التقدم على محور ريف حماة الشمالي. وبين هذا وذاك يشتعل ميدان المعركة ليلتهم قادة ومقاتلين وذخائر ثقيلة في منطقة مكشوفة، تمتد على طول خط الجبهة في ريف حماة الشمالي وصولا إلى حوض العاصي، على شكل نصف قوس تتفرع عنه محاور رئيسية تتقدم حينا وتتراجع أحيانا، فيعيد كل طرف ترتيب نفسه استعدادا لمنازلة أخرى، يحتدم وطيسها كنتيجة طبيعية لمفرزات لقاءات آستانة لتكون هذه المعارك الحدث الأكبر على الساحة السورية منذ مؤتمر سوتشي في أيلول المنصرم، ولما تزل في تمدد مستمر على خريطة الميدان المتبدلة بين وقت وآخر.
اتجاهات الحملة العسكرية الروسية
تكشف الحملة الجوية الروسية الجارية في أرياف (حماة الشمالي وإدلب الجنوبي وحلب الجنوبي والغربي) عن مخاطر كبيرة تواجه المناطق المحررة، في حال عدم اتخاذ فصائل المعارضة المسلحة بمختلف تياراتها خطوات جادة نحو تنسيق عسكري عالي المستوى على الأرض، وتقديم خطط تكتيكية تستطيع بموجبها إيقاف الاندفاع العدواني على محاور الجبهات الممتدة من ريف حماة وصولا إلى ريف اللاذقية، ولا بد من رصد سير المعارك وتفاعلاتها المهمة من خلال معرفة أطراف القتال.
أولاً: فصائل المعارضة المسلحة
هيئة تحرير الشام: تملك قوة عسكرية كبيرة أهمها جيش النخبة المتواجد على أغلب محاور الجبهات.
الجيش الحر: يشارك بعدة فصائل من أهمها "جيش النصر والعزة والجبهة الوطنية للتحرير "، ويرأسهم عدد من القادة من بينهم ضباط أبرزهم "المقدم جميل الصالح قائد لواء جيش العزة، والرائد محمد منصور قائد جيش النصر"، وتدعمهم مجموعات من الجيش الحر ذات مهام قتالية ولوجستية، وأخرى تمتلك صواريخ الـ "تاو".
ثانياً: الميليشيات الروسية والشيعية الإيرانية وميليشيات الشبيحة
ميليشيات فاغنر الروسية: شركة أمنية روسية يعمل تحت لافتتها مئات المرتزقة الروس وتتولى تنفيذ ما يوصف بالعمليات القذرة في مناطق النزاع المختلفة، قتل العديد منهم في المعركة الجارية بريف حماة الشمالي.
الفيلق الخامس اقتحام: وهو تشكيل عسكري بتمويل وتدريب روسي، يضم أفواج "الشواهين" و"الهواشم" و"الحوارث" و"الطرماح"، ومجموعات "وعد مخلوف" التابعة لـ "مليشيا النمر"، سقط منهم العشرات وأسر آخرون في معركة ريف حماة الشمالي.
الميليشيات الإيرانية: مجموعة من المقاتلين الطائفيين زجت بهم إيران في الحرب السورية لمواجهة الشعب السوري الثائر مقابل مبالغ مالية، يطلق على تشكيلاتها أسماء إيديولوجية مثل (حزب الله اللبناني وكتائب أبي الفضل العباس العراقي ولواء فاطميون الأفغاني)، إضافة إلى مجاميع الحرس الثوري الإيراني، وتمتلك إيران قواعد عسكرية بالقرب من مصياف بريف حماة الغربي، ولقي عدد من قادتهم وعناصرهم حتفهم في المعارك الجارية مع فصائل المعارضة.
قوات نظام الأسد وميليشيات الشبيحة: تتكون من بقايا الجيش وتمتلك عدة قواعد عسكرية في محافظة حماة أهمها مطار حماة العسكري، تساندها ميليشيا الشبيحة وهي جماعة مسلحة شكلها أمن نظام الأسد لقمع المتظاهرين من أصحاب السوابق الجنائية الذين أفرج عنهم في بداية الثورة، يتخذون من قرى قمحانة وبلدة صوران وأبو دالي مركزا لهم في ريف حماة الشمالي وإدلب الجنوبي الشرقي.
ترسيم حدود سوتشي بالنار
تجري هذه المعركة كترجمة حرفية لبنود اتفاق سوتشي، يجسدها قصف روسي جوي مكثف يتجاوز عدد طلعاته اليومية 90 غارة، بلغت بمجملها أكثر من 1000 طلعة جوية، ضمن استراتيجية الأرض المحروقة، حيث تستهدف مدن وبلدات ريف حماة الشمالي وجبل الزاوية وسهل الغاب وريف اللاذقية المحرر وأرياف حلب، باعتبارها - كما تنص بنود سوتشي- منطقة نفوذ روسي منزوعة السلاح، توكل مهمة حمايتها للروس والأتراك وسط تسريبات تفيد بأن الروس يعتزمون فتح الأوتسترادات الدولية، مما أسفر عن حركة نزوح كبيرة تجاوزت أرقامها 300 ألف من المدنيين يسكنون أكثر من 200 مدينة وبلدة وقرية بسبب القصف الجوي المتعاظم، ومع ذلك تسير الحملة باتجاه هدفها المتمثل بالسيطرة على عدة قرى مثل تل عثمان والجنابرة وكفر نبوذة والكركات وتل هواش وقلعة المضيق في ريف حماة الشمالي، لتتحول المعركة إلى حرب إبادة مفتوحة تتزامن مع استحقاقات روسية تعمل على حسم المعركة السورية بشكل عاجل قبيل أية مستجدات دولية طارئة.
تمثل منطقة "خفض التصعيد الرابعة" مصدر تهديد للاحتلال الروسي على مدى السنوات الأربع الماضية، بوصفها منطقة مناوئة له تقابل حيزاً جغرافيا طائفيا يوالي الروس سياسيا ومذهبيا، مع ما تمثله من قيمة عسكرية في الاستراتيجية الدفاعية لفصائل المعارضة التي تتيح التصدّي لتقدم "الشبيحة" المتطوعين تحت غطاء "الفيلق الخامس"، التي تحارب مع ميليشيات شيعية، ويمكن وصف هذه المنطقة بأنها الجزء الأكثر حساسية وتأثيرا في قلب سورية باعتبارها بوابة للساحل السوري عبر طريق حلب - اللاذقية وحماة - بيت ياشوط، وفيها منطقة حوض العاصي التي تقطن الجزء الغربي منه أغلبية موالية لنظام الأسد وتقع على تماس مع جبال العلويين، وتعتبر خزانا بشريا ضخما يمد قوات الأسد وميليشياته بالمقاتلين، وفي جوار المنطقة يقع مطاري حماة العسكري، وجب رملة الذي تنطلق منه طائرات الأسد بكافة أنواعها لقصف المدن والبلدات الثائرة ضد نظام الأسد، ويتبع ذلك قيمة إستراتيجية وجيوإستراتيجية للمنطقة من خلال تنوع تضاريسها بين السهلية والهضبية التي يخترقها نهر العاصي، مما أعطاها ميزة اقتصادية لها أهميتها الكبيرة في ظروف السلم والحرب، فضلا عن أن هذه المنطقة تقع ضمن خريطة العمليات الروسية وبالأخص ريف حماة الشمالي، وجبل الزاوية؛ لأن الهدف الروسي يرمي إلى تحقيق نصر تاريخي وسياسي وعسكري في جغرافيا معقل الثوار التي تمثل مصدر التهديد الجغرافي والبشري للأسد، طوال عقود الاستيلاء الطائفي على السلطة، لذلك تعمل روسيا على رسم حدود آمنة في هذه المنطقة لدفع فصائل المعارضة للقبول بأية صيغةٍ تمليها فيما بعد متغيرات الأحداث والمصالح ومع أي طرف.
أبعد من سوتشي
"سوتشي" هو الأكثر فاعلية ويبدو أنه الأسبق في التنفيذ من أي مسعى سياسي قدمته الأطراف الدولية في جنيف أو في التفاهمات الثنائية بين واشنطن وموسكو، ومهدت له في آستانة بقصد تثبيت وقف إطلاق النار لعزل فصائل الثورة عسكريا عن الصراع الدائر وقتذاك ضد تنظيم "داعش" في وادي الفرات، تمهيداً للدخول في مفاوضات لحلّ الأزمة سلمياً، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وكان الخيار العسكري هو الأسبق لفرض السيطرة الروسية بالقوة المسلحة على البلاد كلها، ونسف كل مبادرات السلام التي دعت إليها في آستانة بعد الالتفاف عليها طويلاً، وفق استراتيجية من يجيد تقدير الموقف من الحسم العسكري تقديراً دقيقاً، لذلك جاء سوتشي لوصد الأبواب أمام أيّ مسعىً حقيقي إلى السلام ونسف "قرارات جنيف" التي أقرها ممثلو الدول الكبرى لتسجل الدعوة إلى هذا المؤتمر شهادةً أخرى، على أنّ تجربة الحسم العسكري في تثبيت سلطة الأسد المستولى عليها هي المألوف في الاستراتيجية الروسية، وأنّ ما سوى ذلك للعب بالوقت ومحاولات ابتزاز سياسية، بهدف تمكين سلطة الأسد بالقوة وطي وثائق جنيف باعتبارها أقوى الوثائق السياسية الدولية لحل الصراع في سورية.
خطط المواجهة وتكتيك المعركة
تجري معارك الأرياف المحررة وفق خطط تفرضها الأحداث العسكرية على كل طرف، ولا يمكن فصلها عما يجري في سائر محاور القتال الممتدة على جبهة طولها حوالي 50 كم، بمعنى أن الصورة هنا وهناك تصعيد عسكري للميليشيات الروسية والإيرانية، واستماتة لكسب مزيد من الأرض، يقابله من فصائل المعارضة تصعيد واستماتة للتشبث بالأرض واستردادها، وفي جانب التكتيك المتبع في المعارك، فالملاحظ أن فصائل المعارضة تحولت بعد تراجعها عن بعض المواقع من وضعية الدفاع إلى الهجوم والعمل على تطويره، مما مهد عمليا لإيقاف الهجوم في ريف اللاذقية الشمالي، إذ تمكنت فصائل المعارضة من تحويل تقدم الميليشيات الإيرانية لحالة استنزاف ضمن محور مركزه "كبينة" خط الدفاع الأول عن سهل الغاب وريف جسر الشغور الغربي، وأما على محور ريف حماة الشمالي؛ تبدي فصائل الثورة دفاعا مستميتا رغم الغارات الجوية التي تتجاوز في اليوم الواحد نحو مئة غارة، فقد شهد هذا المحور تراجعا واضحا في الآونة الأخيرة بعد سيطرة الميليشيات المهاجمة على "الجنابرة وتل عثمان " واشتركت في الهجوم أفواج "الشواهين" و"الهواشم" و"الحوارث" و"الطرماح" ومجموعات "وعد مخلوف" التابعة لـ"مليشيا النمر" وميليشيا " فاغنر" الروسية، والميليشيات الشيعية الإيرانية، واستخدمت المليشيات المهاجمة بشكل كثيف دبابات T-72، في حين تولى "الفيلق الخامس" التغطية النارية المدفعية والصاروخية وعمليات الإشغال في المحاور الأخرى، تمهيدا لاقتحام "مدينة كفر نبوذة" التي سبق الهجوم عليها سبعون غارة جوية من الطيران الروسي ومروحيات البراميل المتفجرة، فضلا عن اشتراك الميليشيات الإيرانية بعملية الاقتحام، ونجحت المليشيات في تخطي الدفاعات الأولى للمعارضة المسلحة في محور كفر نبوذة، وتقدمت نحو المدينة لتحتلها ظهر أمس الأربعاء، ويشارك في التصدي لتلك المليشيات كل من "جيش العزة" و"الجبهة الوطنية للتحرير" و"هيئة تحرير الشام" و"أنصار الإسلام"، وتقول فصائل المعارضة إنها قتلت عدداً كبيراً من عناصر المليشيات خلال المعارك، بينهم قائد إحدى مجموعات "مليشيا النمر" الملقب بـ "حيدر النمر"، ولا تزال المعارك جارية في هذه المحور بعد "كفر نبوذة"، مما جعل خط التقدم مفتوحا باتجاه الهبيط وتل هواش وقلعة المضيق التي تعد الهدف الرئيسي المرحلي في أجندة المهاجمين باتجاه سهل الغاب.
ومع تقدمها صباح اليوم الخميس فتحت محاور أخرى لتضييق الخناق على المدينة بالاتجاه إلى محور تل هواش – الكركات، مما سهل عملية الإطباق على القلعة وحصارها لتنسحب فصائل المعارضة منها، ولن تتوقف الحملة الروسية المشتركة مع إيران ونظام الأسد إلا بعد السيطرة النهائية على منطقة اللطامنة في ريف حماة الشمالي وريف جسر الشغور وسهل الغاب وريف حلب الجنوبي، وذلك لإبعاد فصائل الثورة عن قاعدة حميميم وعن القرى والبلدات ذات الأغلبية العلوية كي لا تطالها المديات الصاروخية، ومن أبرز الأسباب التي أدّت إلى التقدم المرحلي وما سيتبعه، كون المعركة تدور في حيز جغرافي ذي طبيعة تضاريسية منبسطة ومكشوفة، مما يسهل عمل الطائرات الروسية وتلك التابعة لنظام الأسد في تأمين الغطاء الجوي للميليشيات المهاجمة.
تفاعلات المعركة ونتائجها
تجري هذه المعركة في سياق تطبيق الاستراتيجية الروسية وفقا لبنود سوتشي، التي تنص على بناء منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 - 20 كيلومتراً، وإقرار الخطوط المحددة لهذه المنطقة والتخلص من جميع الجماعات الراديكالية داخلها، وسحب جميع الدبابات وقاذفات الصواريخ المتعددة والمدفعية ومدافع الهاون الخاصة بالأطراف المتقاتلة، ولعلّ مسار المعركة يوضح حدود العملية العسكرية وهي احتلال الروس للمنطقة العازلة، ولن تتوغل إلى أبعد من ذلك ما دامت تدعي التمسك بمسارات آستانا والنجاح في اللجنة الدستورية، ودعوتها المعلنة لعودة اللاجئين، ناهيك عن تمسكها بعلاقات مميزة مع تركيا، وفي الواقع ما تقوم به روسيا خدعة تريد من خلالها تمرير استراتيجية الخطوة خطوة لاستدراج المعارضة إلى القبول بها، ثم تقوم بنقض ما لا يتفق مع مصالحها، لأنها منذ احتلالها سوريا قبل ثلاثة أعوام ونيف، لا تتعامل مع المعارضين للأسد وفق مبادئ قانونية سواء كانت دولية، أو هي من استصدرها باعتبارها دولة لا تطالها مساءلة قانونية، ولا تلزمها قرارات دولية، وكل ما تبديه من تراجعات ظاهرية قبل بلوغ هدف من أهدافها المرحلية لا يتعدى أن يكون تراجعا في التكتيك ضمن إطار الاستراتيجية العامة التي رسمتها لنفسها في سوريا، مستغلّة الصراع الفصائلي للمعارضة وتشرذم التيارات السياسية المتباينة إيديولوجيا ووطنيا.