بلدي نيوز – (تركي مصطفى)
تحولت منطقة شرق الفرات بعد إعلان الرئيس الأميركي الانسحاب منها إلى محور رئيسي في زحمة الصراع الجاري في سوريا، تعمل كل الأطراف للسيطرة عليها، فهل تسمح القوى الدولية بحسم المعركة لصالح أحدها؟
ملخص
في بلدٍ تتفق فيه واشنطن وموسكو على نهش أحشائه وتقطيع أوصاله، وتختلف في كل شيء خارج سياقه، مسألة تحتاج إلى دراسة معمقة متأنية، فبعد أن أعلن الرئيس الأميركي أن الحرب في سوريا قد انتهت، سارعت الدول الفاعلة لمراجعة خريطة تقاسم النفوذ بين اللاعبين صغارا وكبارا، وصولا لتصفيات نهائية تؤسس لاحتلال مديد يتحكم بسوريا وشعبها، فالأسد الذي استدعى كل الاحتلالات لمساندته في قتل الشعب السوري، تنازل عن كل شيء في سبيل ضمان بقائه في السلطة، وفي الوقت نفسه تتنازعه رهبة من الانسحاب الاميركي بعد استفراد روسيا وإيران بقراره السياسي، فيما سيزداد الإرباك الإيراني، في مرحلة ما بعد هذا الانسحاب، نتيجة الخلل القائم في العلاقة الإيرانية الروسية، والإيرانية التركية.
ومع إعلان انتهاء مهمة القوات الأميركية في سوريا وانسحابها خلال مدة زمنية محددة، غرّد ترامب: "يمكن لتركيا أن تقضي على ما تبقى من داعش"، ويعتبر هذا التصريح بمثابة تكليف الأتراك بمهمة ملء الفراغ الأميركي، وهو جزء من استراتيجية الولايات المتحدة تجاه تركيا منذ آب (أغسطس)، لتحويل أنقرة عن مسارات طهران بهدف الضغط عليها في إطار العقوبات الأميركية. وجاء قرار ترامب بالانسحاب في أعقاب تفاهمات أدت إلى تنازلات قدمتها أنقرة وواشنطن، والتي من الواضح أنها عملت على ترميم العلاقات بين الدولتين.
من هنا، حشدت تركيا قواتها مع فصائل الجيش الوطني في محيط منبج، إلى جانب تعزيزاتها العسكرية على طول الحدود مع سوريا، في الوقت الذي أعلن متحدث باسم مجلس منبج العسكري –الذي تسيطر عليه الوحدات الكردية- أن قوات من ميليشيا الأسد مدعومة بقوات روسية أرسلت صوب مدينة منبج بالتنسيق مع المجلس، تزامنا مع استعداد فصائل الجيش الحر الذي تدعمه تركيا للهجوم على المدينة، وفي هذا الصدد قال الرائد يوسف حمود الناطق باسم الجيش الوطني لـ"رويترز"، "إن المعركة ستبدأ قريباً. وأضاف أنه يجري حالياً تعزيز كل القوات على الجبهة للوصول إلى الاستعداد الكامل للمعركة". فأنقرة التي تقف متأهبة على مشارف منطقة شرق الفرات تعتبر تلك المعركة قضية مصيرية ووطنية تمس عميقا أمنها القومي، بمعنى قضية حياة أو موت، لذلك لابد لها من تنظيف شرق الفرات من الفصائل الكردية.
يبقى الموقف الإيراني الذي يلتزم حتى حينه المخاتلة السياسية حيال مآلات القرار الامريكي بالانسحاب من سوريا ويتستر بالعباءة الروسية التي رفعتها عن ظهره بسماحها لطيران إسرائيل باستهدافها متى شاء، فيما يبدو "حلف آستانة" متعثرا في هذه المنطقة الحيوية، حيث حركت روسيا وكلاءها من مرتزقة إيران والأسد عند الحدود الإدارية لمنطقة منبج وشرق الفرات، ليلتقي جميع الفرقاء "تركيا وروسيا وإيران والجيش السوري الحر، والوحدات الكردية، وقوات نظام الأسد" وجها لوجه في حيز جغرافي مقبل على لعبة التفتيت وإغراءات التقسيم. حيث تشير بعض التسريبات على أن اتفاقا يجري بين تركيا وروسيا حول منبج التي سيغادرها حزب "ب ي د" إلى منطقة شرق الفرات وهي أولى مطالب أنقرة من قرعها لطبول الحرب.
الطريق إلى شرق الفرات.. منبج أولا
اضطرّت تركيا الى إرجاء معركة منبج بعد أن أوشكت على إطلاقها، لكنها واصلت الحشد العسكري على حدودها، وعلى الرغم من "تفويض" ترامب لأردوغان، وإطلاق يده في الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية، تريثت أنقرة في التقدّم باتجاه منبج انتظارا للتفاهم مع روسيا التي تراقب عن كثب ما شهدته الأشهر الأخيرة من تحولات في العلاقات الأميركية – التركية، بدءا من شهر آب (أغسطس)، وفي هذا السياق قال الناطق باسم الجيش الوطني: "موضوع منبج مرتبط بالتفاهمات العسكرية والسياسية التركية الأميركية".
من هنا، جاء قرار ترامب بالانسحاب على وقع سلسلة من التنازلات التي قدمتها أنقرة وواشنطن، والتي من الواضح أنها أدت لصفاء العلاقات بين الدولتين. فقد أطلقت تركيا سراح القس الأميركي الذي احتجزته لمدة سنتين بتهم التجسس والإرهاب، كما وافقت أنقرة على الحد من وارداتها من النفط الإيراني في خطوة استحسنتها واشنطن، وقابلتها برفع العقوبات التي كانت مفروضة على العديد من المواطنين الأتراك، وتم عرض تأجيل للعقوبات لمدة ستة أشهر، كما التزمت أنقرة بمبلغ 3.5 مليار دولار لشراء صواريخ باتريوت الأميركية. فيما أيدت واشنطن المطالب التركية بالسيطرة مع الجيش الحر على مدينة منبج الواقعة تحت نفوذ "الوحدات الكردية".
انطلاقا من هذه الأجواء الصافية بين البلدين، أعلن ترامب الانسحاب من سوريا بالتفاهم مع تركيا ويدلل على ذلك ما قاله أردوغان "أن ترامب لن يقف في وجه توغل تركي في شمال شرق سوريا". ورغم تعمد واشنطن غيابها عن المشهد السوري ومحاولة روسيا الاستفراد بمكامن القوة، إلا أن تركيا المسلحة بتفويض من ترامب، أجبرت روسيا إلى تفعيل "محور آستانة" بالتفاهم مع تركيا حول تسوية وضع منبج، وذلك وفق بنود مسرّبة تنسجم إلى حدّ كبير مع الاستراتيجية الروسية التي باتت قادرة على تحريك الأطراف الفاعلة في التنازع على سوريا، وأهم تلك البنود التي تتفاوض عليها كلا من روسيا وتركيا هي:
- انسحاب قوات قسد العسكرية بكافة اجهزتها الأمنية والعسكرية باتجاه سد تشرين، لتتقدم قوات نظام الأسد من الجنوب لمسافة 3 كيلو مترات ولا تدخل المدينة.
- تقدم القوات التركية مع فصائل الجيش الحر لتصل إلى أطراف المدينة من الشمال لمسافة 3 كيلومترات ولا تدخل المدينة.
- تقديم الجانب التركي قائمة بأسماء عناصر "بي كي كي" الذي يقول أنهم متواجدون في الإدارة المدنية لمدينة منبج، ثم دخول لجنة تركيا مع قوات من الجيش الحر لمنبج للتأكد من مغادرة هذه الأسماء لمدينة منبج.
- اتخاذ مدير منطقة منبج، ناحية العريمة مجلس ادارة لمنبج، ويباشر مهامه باستدعاء الشرطة المنشقين والمتوقفين عن الخدمة من أبناء منبج وتسليمهم مهام الأمن في منبج.
- الاجتماع بالقضاة والموظفين الحكوميين لتشكيل لجنة لإدارة المدينة من بلدية وتربية واستلام كافة المهام التي كانت تديرها "قسد". والتريث بأي تغيير بالدوائر الخدمية واستمرار عملها كالبلدية والتربية والأفران.
- تسليم قوات نظام الأسد الإشراف الكامل على طريق منبج الباب حلب، وفتحه للاستخدام.
- أخيرا، مدة تنفيذ الاتفاق ثلاثة أشهر.
السباق إلى شرق الفرات... والاستراتيجية التركية
تضع أنقرة في جملة أهدافها الاستراتيجية، السيطرة على الحدود السورية من نهر الفرات إلى الحدود العراقية وهو بلا شك مكسب استراتيجي كبير لتركيا، وفي الوقت ذاته سيحدث خلخلة في حلف آستانا، وبالأخص بين طهران وأنقرة، فيما يسيطر القلق على "الوحدات الكردية" التي قامت برفع علم نظام الأسد فوق قرى ريف منبج الغربي، بهدف توظيف مراكز القوى المتصارعة في حمأة المشهد المتشح بالدم، وهذه لعبة سياسية لتوظيف الصراعات القائمة لأهداف آنية يحاكي فيها انفصاليو الكرد سياسة الأسد القائمة على اللعب منذ بداية الثورة السورية.
من هنا، تواجه تركيا مع حليفها الجيش الحر، أربع قوى رئيسة، تتسابق على ملء الفراغ الأمريكي: "ميليشيات نظام الأسد، ومعه الميليشيات التابعة لإيران، وميليشيات الحشد "الشيعي العراقي، وبقايا مقاتلي داعش، إضافة إلى قوات "قسد" الموجودة أصلاً هناك، وتعدّ هذه التوليفة، أخطر التحالفات المتجددة (الأسد وإيران والكرد) بحيث توظف قضية الحرب ضد الإرهاب للدفع بالمنطقة إلى الحرب المفتوحة، وهذا ما يشير إلى رفض موسكو دخول الجيش التركي إلى منطقة شرق الفرات أضف إلى ذلك رفض إيراني – أسدي مرجح ضد توسيع مناطق النفوذ التركي داخل الأراضي السورية.
فمنذ إعلان تركيا مع فصائل الجيش السوري الحر اقتراب دخول مناطق شرق الفرات تعالت أصوات حزب "ب ي د" الكردي في استدعاء قوات الأسد إلى ملء الفراغ الأمريكي، احتماءً من التوغل التركي الوشيك في المنطقة، ولكن التفاهمات التركية – الروسية التي ظهرت ملامحها في الاتفاق المفترض في منبج تشير إلى رغبة موسكو بإعطاء تركيا أوراق قوة إضافية لتوازن حجم قوة إيران، ولضمان استمرار التنافر الأمريكي – التركي. وفي هذا الصدد صرح الصحفي أيمن مصطفى محمد لبلدي نيوز:" يبدو أن المرحلة الأولى من الاتفاق الأمريكي- التركي في سوريا ستفتح الطريق أمام تركيا وقوات الجيش الوطني لدخول المنطقة الممتدة من تل أبيض بريف الرقة إلى منبج بريف حلب وبعمق سيمتد حتى ديرالزور شرق سوريا، وبالتالي؛ فإن الرقة ستكون من نصيب تركيا وسيتم إعادة إعمارها بالتعاون بين تركيا والسعودية".
وأضاف محمد "واشنطن تدرك أن "حزب الاتحاد الديمقراطي" فشل في إدارة كافة المناطق ذات الغالبية العربية ولا يمتلك أية حاضنة شعبية وهذا ما نلمسه من خلال العمليات العسكرية لتنظيم داعش التي تستهدف بشكل يومي قوات قسد في الرقة أو منبج أو ريف ديرالزور؛ كما فشل تنظيم "ب ي د" في جذب الفصائل التي كانت تقاتل تحت راية الجيش الحر وحاربها وأبعدها بشتى الوسائل عن مركز القرار حتى باتت هذه الفصائل -رغم قلتها- هدفا لميليشيا الوحدات الكردية وخاصة "لواء ثوار الرقة" رغم دخوله تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية التي تقودها وتتحكم بها الوحدات الكردية، حيث تعرض اللواء لعمليات اجتثاث واستهداف في أكثر من مكان بالرقة، حتى وصل الأمر لقطع الإمدادات بما في ذلك رغيف الخبز عن المقاتلين بهدف تصفية اللواء وإنهائه، وهو ما نجحوا به لإفشال ولادة أي قوة عربية مؤثرة في الرقة وتمتلك حاضنة شعبية"، وبناء على ذلك، حشدت تركيا قواتها مع الجيش الوطني على الحدود الشطرية شرق الفرات، فيما كثفت من اتصالاتها مع موسكو لمناقشة القرار الأميركي بالانسحاب واستعدادات تركيا لشن عملية عسكرية تستهدف الوحدات الكردية في شمال شرقي سوريا.
التريث التركي
يبدو، أن المعركة التي تعمل تركيا على إطلاقها شرق الفرات تجري وفق خطط طويلة وظرفية، تفرضها تدافع الأحداث السياسية على كل طرف، وبطبيعة الحال، فهذه الخطط لا تنفصل عن استراتيجية عليا للحرب بوجه عام، فتُسيَّر المعارك حسب أولوية أهداف وغايات تمثِّل المبرر الأبرز لدخول تركيا هذه الحرب.
ومَنْ رصد التحركات السياسية المكثفة وتهافت قوى الصراع يتبين له أسباب تأجيل تركيا لمعركة شرق الفرات، والتي يمكن إجمالها بالتالي:
ــ أن أطرافا في الصراع السوري يسعدها انفجار المنطقة عسكريا بصورة ارتجالية دون حسابات؛ لأن انشغال الأتراك بالحرب يحقق نتائج مفيدة لمتبني استراتيجية الاستنزاف والإرهاق، فتتاح الفرصة للأطراف الأخرى "إيران" لتعد نفسها كقوة تفرض خيارها السياسي والعسكري في هذه المنطقة.
ــ أن تركيا غير مستعدّة لاستفزاز الولايات المتحدة التي تستعد للخروج، وأن تدخّلاً عسكرياً تركياً، في هذه الأثناء، قد يقوّي من مركز الفريق الأميركي الرافض للانسحاب بذرائع أخلاقية كالتخلي عن شركائهم الأكراد الذين سيتركون لمصير مجهول.
ــ رغبة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في أن تكون العملية العسكرية الحاسمة قريبة من الانتخابات المحلّية التركية في مارس/ آذار المقبل، ما من شأنه تقوية مركز الحزب إعلاميا.
ــ خشية أنقرة من ردّ فعل روسي، يطيح بالتفاهم بين الدولتين.
وبالتالي، لا بد من الوصول إلى توافق جديد بشأن سياسة ملء الفراغ الأميركي، ويبدو هذا الأمر أهم الأسباب، وأكثرها تعقيدا.
خلاصة:
قد يكون للأجل الأميركي المحدّد للانسحاب، وفترة التريّث التركي، الأثر المهم على مستقبل المنطقة، فبعض أطراف الصراع، تنظر إلى أبعد من تحقيق النصر، وهو: من سيحكم بعد النصر منطقة شرق الفرات؟ وهنا، يكون الجواب: أن بعض القوى الدولية والإقليمية ترفض أن تستأثر قوى وطنية بمنطقة شرق الفرات، أو تكون الطرف الأكثر فاعلية فيها؛ كالجيش الوطني حليف الأتراك.
بالإضافة إلى الأطراف الأخرى التي تمثل المصالح المتعارضة لدى كافة أطراف الحرب، في سياق مصالح لدول كبرى، كانت تحرك وتراقب ما يجري في سوريا قبل عقود؛ ولذلك ستتوقف معركة شرق الفرات ثم تُستأَنَف، إلى أن تتوصل مختلف القوى الإقليمية والدولية إلى حدٍّ أدنى من التوافق على شكل الصيغة السياسية للنظام الجديد في سوريا.