بلدي نيوز- (ليلى حامد)
وسط حالة الخذلان الدولي، واﻹيحاء بأنّ حلم السوريين بالتغيير السياسي ضاع، ثمة انهزاميون دون شك، اختاروا طريق العودة إلى دمشق مروراً بالمصالحة مع حكومة اﻷسد، فيما يتمسك آخرون بالرمق الأخير رغم الألم والمعاناة في رحلة التهجير القسري.
في ريف إدلب يجلس أبو زاهر وزوجته المهجرين من دمشق في غرفة لا توحي بأنّ الحياة دخلتها يوما ما، فالجدران متصدعة، والنوافذ محطمةٌ بفعل القصف على المدينة التي استضافتهم، بعد نقلهم من حي جوبر الدمشقي، في الغوطة الشرقية، إلى محافظة إدلب.
على اليمين من الغرفة مدفأة حطبٍ قديمة، يعلوها صدأٌ وتراب وكأنها لم تشتعل منذ زمنٍ طويل، لكنها وكما يقول أبو زاهر القادم من دمشق لبلدي نيوز إن وجودها يعطينا دفئاً.. مجرد اطمئنانٍ نفسي ليس أكثر، في غربتنا وغرفتنا الضيقة".
داخل المطبخ قدرٌ متوسط الحجم، وجرة غاز، أبوابٌ مخلّعة، ونوافذ استبدل زجاجها بالنايلون المطلي بالدهان، يقول أبو زاهر: «حتى ما ننكشف ع الجيران اللي مقابلنا».
تطهو أم زاهر الرز، وتقطِّع السبانخ، تعلو وجهها ابتسامةٌ ما تلبث أن تفسرها بالقول "أكلنا الحشائش مدةً من الزمن فترة الحصار، أبو زاهر لم يكن يعمل حينها، وكنت حاملاً بزاهر وقتها، واليوم أيضاً نأكل حشائش خضراء (في إشارةٍ منها للسبانخ)، إنها نعمة من الله، ومعها أرزٌ من إحدى المنظمات اﻹغاثية، ليتنا اﻵن نأكلها في الغوطة".
بعد وجبةٍ من يدي أم زاهر، وعلى نغمات صراخ الطفلة الصغيرة التي أنجبتها في إدلب، وأطلق عليها والدها اسم "جوري"، مترافقةً بصراخ زاهر الذي لم يشبع، يلتفت أبو زاهر متحدثاً بكلامٍ بالكاد يخرج من بين شفتيه: "الحياة صعبة وشاقة، عملتُ عتالاً، وبائعاً جواﻻً أجرّ عربة خضار قدّمها لي شابٌ من إدلب أحب مساعدتي، رغم أنني متخرج من كلية الحقوق، وزوجتي في السنة الثالثة هندسة، وحين بدأت الثورة توقفت عن الدراسة".
ويردف بالقول "حال الشمال المحرر يوحي أنّ الثورة انتهت، بيعت وتم قبض الثمن، فكرتُ ملياً بالعودة إلى الغوطة، ثمة موانع كثيرة، من بينها المشهد في الداخل المحتل من نظام اﻷسد وتعامل أجهزة مخابراته مع العائدين، وتذكر ثمانينات القرن الماضي وأحداث حماة وجسر الشغور".
تمسح أم زاهر دمعةً من فوق وجنتيها بمنديلٍ من قماش، وتقول: "يصعب علينا أن نفكّر بالعودة، لكنها قسوة الغربة وصعوبة المعيشة بين أجرة المنزل واﻷمبيرات، فضلاً عن تعامل المنظمات اﻹغاثية معنا بطريقةٍ مذِّلة، علاوةً على المحسوبيات".
يقاطعها أبو زاهر؛ "لو كانت الديمقراطية رجلاً لقتلته"، ثم يضحكان ويمتلأ المكان ضجيجاً، ويردف؛ "يصعب على أمثالي ترك سلاحهم، إنها طبيعة المقاتل، وإن فكّر النظام بالتقدم شبراً إلى المحرر فلن يكون ذلك إﻻّ على جثثنا، يستحيل أن أعود إلى حضن اﻷسد، تعلّمنا الدرس".
أبو زاهر ليس وحده من فكر بقرار العودة إلى ما يسمى "حضن الوطن"، وإن كان في كلامه ما يؤكد عدم عزيمته على الأمر.
عودة واعتقال
بالمقابل؛ عشرات الشباب تراوده الفكرة عن نفسه كما يقول "أبو عبيدة" من مهجري بلدة قدسيا، بالريف الغربي لدمشق، ومعه بعض أصدقائه الذين لم يجدوا –بحسب تعبيرهم-إلا الموت السريري البطيء للحراك الثوري، مع ما يرونه ظلماً أو تهميشاً بحق المهجّرين، معتبرين أنهم ضحايا، بلا حولٍ ولا قوة. لكنّهم أكّدوا لبلدي نيوز، أنها مجرد أفكارٍ يتندرون بها تارةً وتارةً يلقونها كردة فعلٍ على ألمهم أمام المشهد الميداني.
"عادل.م" شابٌ في العقد الثاني من العمر، من منطقة قدسيا، عسكري منشق، خرج إلى إدلب بالباصات الخضراء، قاتل إلى جانب الجيش الحر، وتنقّل بين العديد من الفصائل، تراكمت ديونه ولم يجد عملاً ليسددها، باع ذووه قطعة أرضٍ في منطقة البجاع بريف دمشق، ودفعوا مبلغاً وقدره 6 مليون ليرة سورية؛ لقاء عودته إلى بلدته برفقة زوجته، وعاد نهاية أيلول/سبتمبر الجاري، ليلقى مصير الاعتقال في اليوم التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الفائت، دون أن يعلم أحدٌ عن مصيره.
لا توجد إحصائياتٌ دقيقة لعدد العائدين من الشمال السوري المحرر إلى مناطق سيطرة الأسد، إلا أنّ وكالة sputniknews ذكرت نقلاً عن مركز استقبال وتوزيع وإيواء اللاجئين التابع لوزارة الدفاع الروسية بلغ منذ 4 آذار/مارس الفائت 31802 شخصاً (9589 امرأة و16150 طفلاً)، و4158 آلية 44170 رأس من الماشية.
ويبقى السؤال مفتوحاً؛ من يغلق باب التساؤل حول العودة؟ أو من يجلد ظهر المروّجين للهزيمة.. بحسب ما يقول أبو زاهر وغيره لبلدي نيوز؛ "الثورة فكرة، والأفكار ﻻ تموت، يطرأ عليها بعض الوهن بفعل الظروف، لكنها تجدد نفسها تلقائياً".