بلدي نيوز - (تركي المصطفى)
تندفع الولايات المتحدة من جديد في سوريا بأجندات استراتيجية معلنة، على رأسها طرد إيران وقصقصة أذرعها العسكرية، يتجسد ذلك من خلال نشاطها الدبلوماسي وتفعيل وجودها العسكري في الشرق السوري، وتمكين القوى الانفصالية التي تضمن لها السيطرة على "سوريا الحيوية" وترك الروس في "سوريا المفيدة" لصراعات طويلة ومزمنة.
تناقش هذه الورقة الاستراتيجية الأميركية الجديدة في سوريا، في ضوء أبعاد الخلاف الدائر بين أطراف الصراع السوري، وتطرح الورقة رؤية معمقة لمآل هذه الاستراتيجية، وانعكاس ذلك على المشهد السياسي في ظل التفاعلات المتسارعة للتسوية السياسية السورية، وتداعياتها على الحرب المشتعلة منذ أكثر من سبع سنوات.
مقدمة
لعبت روسيا ولا تزال، دورا حيويا في تمكين نظام الأسد وحلفائه من الاستمرار في الحرب، وإخضاع ما يمكن إخضاعه من سوريا بالقوة المفرطة، أو بالتسويات السياسية وفق استراتيجية ترمي إلى التركيز على ملفي اللاجئين والإعمار، مما دفع الولايات المتحدة إلى التحرك مجددا لانتزاع ما يمكن انتزاعه من سوريا والسيطرة عليه بالتمسك بأوراق الضغط والوجود العسكري شرق سوريا، للدفع نحو عملية انتقال سياسي.
ويعتقد كثير من المراقبين وجود توجه استراتيجي جديد في سوريا، يتجسد في الحراك الدبلوماسي للولايات المتحدة من خلال حشد مواقف حلفائها كــ "دول المجموعة الصغيرة" التي تضم أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا والسعودية والأردن ومصر، بمشاركة رئيس "هيئة التفاوض السورية" المعارضة، نصر الحريري، والتوجه نحو تجديد العلاقات مع تركيا عبر التعاون في قضايا كانت خلافية، مهّد لانفراجها تسوية قضية القس الأميركي الذي أفرجت عنه تركيا مؤخرا، والمضي نحو التعاون في مدينة منبج ودعم واشنطن لأنقرة في اتفاق "سوتشي" الخاص بإدلب.
وتتبلور العودة الأميركية إلى الملف السوري وتسخينه استنادا لتصلب إدارة الرئيس دونالد ترامب، في قرارها القاضي ببقاء القوات الأميركية في منطقة شرق نهر الفرات وفي قاعدة "التنف" الواقعة في المثلث السوري العراقي الأردني، والإصرار على إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا.
وبالمقابل، تضع روسيا أوراقها في مواجهة التوجه الأميركي الجديد بمواصلة حراكها الدبلوماسي، الذي افتتح بلقاء الروس مع دي ميستورا في جنيف لمناقشة ملف اللجنة الدستورية، بالإضافة إلى التحضير لقمة إسطنبول في 27تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، التي سيكون من بين الحضور فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إضافة إلى اللقاء المرتقب برئيس "هيئة التفاوض السوري" المعارض، نصر الحريري، مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو.
وفي الآفاق المنظورة لتداعيات الرياح السياسة المتبدلة؛ ثمة ما يشير إلى سعي كلا من واشنطن وموسكو توظيف الأطراف الأخرى بما يخدم أجنداتهما الخاصة وفق خلاف في الرؤية السياسية والأيديولوجية، يجمعهما مشترك واحد يتمثل في قدرتهما الفائقة على التلاعب بالقضايا المختلفة، والتنافس على النفوذ في سوريا.
الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة
في إطار الاستراتيجية الأميركية الجديدة، ثمة من يرى أنه قد دفعت خارطة النفوذ الروسية المنتفخة واشنطن إلى صحوة جديدة، عبرت عنها بنشاطها الدبلوماسي المتعاظم وما يحمله من أطر سياسية واضحة ومفاجئة ومناقضة لرؤية موسكو التي تعمل على استثمار "إنجازاتها" في سورية، منفردة عن بقية العالم.
الملف السوري.. التمسك بجنيف ومحاربة "الإرهاب"
تنطوي الرؤية الأميركية الجديدة للقضية السورية على عدة عناصر، يقف على رأسها ما يلي:
أولا: العودة إلى الملف السوري من بوابة القرارات الدولية وفي مقدمة ذلك، التمسك بتشكيل "اللجنة الدستورية" وفق مرجعية جنيف، وقد أكّد وزراء "المجموعة الصغيرة" التي تضم أميركا وبريطانيا وفرنسيا وألمانيا والسعودية والأردن ومصر بعد اجتماعهم في نيويورك، معايير تشكيل اللجنة الدستورية تمهيدا لانتخابات رئاسية وبرلمانية سورية بمشاركة السوريين في الشتات ورقابة الأمم المتحدة، إضافة إلى تجديد التمسك بشروط المشاركة في إعمار سوريا بينها حصول "انتقال سياسي"، وستبحث دول "المجموعة الصغيرة" في اجتماع لندن المرتقب، ورقة سابقة تضمنت مبادئ الحل السياسي وفق قرارات جنيف وضرورة "تقليص صلاحيات الرئيس"، وتعزيز صلاحيات رئيس الوزراء، وإقرار مبدأ اللامركزية في سوريا، وهذا الاهتمام الأميركي المفاجئ بقضية تشكيل اللجنة الدستورية، فرضته تطورات سياسية في الملف السوري، إذ تدفع واشنطن ديمستورا إلى إحداث إنجاز ما على هذا الصعيد قبيل مغادرة منصبه، وناقش وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع دي ميستورا الوضع حول تشكيل اللجنة الدستورية، وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، هيذر ناورت، للصحافيين الثلاثاء، إن الوزير ناقش مع المبعوث الأممي "التقدّم الذي حققه الأخير في مسألة عقد اللجنة الدستورية".
ثانيا: بقاء القوات المسلحة الأميركية في سوريا وتحديد دورها، وذلك وفق ثلاث نقاط:
ــ دحر " تنظيم داعش" المتواجد في بؤر صغيرة شرق سوريا، وفي زيارته إلى قاعدة "التنف" حذر قائد عمليات الجيش الأميركي في الشرق الأوسط، الجنرال جوزيف فوتيل، إسقاط "داعش" من الحسبان في المرحلة الراهنة، مشيراً إلى أن مهمة القاعدة الأساسية تكمن في ممارسة الضغوط على المتطرفين الفارين من المعارك الدائرة بوادي الفرات، ومنعهم من استخدام هذه المنطقة لإعادة تنظيم صفوفهم.
ــ إخراج الميليشيات الإيرانية من سوريا، وذلك من خلال ما كشفه جون بولتون، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لشؤون الأمن القومي، من سعي ترامب إلى احتواء نفوذ إيران في الشرق الأوسط، وطرد ميليشياتها من سوريا، وحيث أكد الجنرال الأميركي فوتيل من قاعدة "التنف" بأن "تواجدنا وتطويرنا لشركائنا والعلاقات هنا، لديها تأثير غير مباشر على بعض الأنشطة الخبيثة التي تسعى إيران ووكلاؤها إلى ممارستها".
وتقع قاعدة "التنف" على طريق تربط بين مواقع القوات المدعومة إيرانياً في سوريا بجنوب لبنان وحدود "إسرائيل"، وتشير التقارير إلى أن البنتاغون قد يستخدمها لتقليص التواجد الإيراني في سوريا.
ــ تهيئة الظروف المناسبة للتسوية السياسية في سوريا، وقد أوضحت الإدارة الأميركية أن تواجد قواتها في سوريا يشكل أداة ضغط في أيدي الدبلوماسيين الأميركيين.
ــ ترميم علاقاتها السياسية
تجسدت أولى ملامح تفعيل الاستراتيجية الأميركية الجديدة في إنعاش العلاقات مع تركيا وترميمها، بعد تباعد في الرؤى بينها من خلال عدة قضايا كان آخرها؛ قضية القس الأميركي الذي شكل الإفراج عنه انفراجا في العلاقات بين واشنطن وأنقرة، سعيا من إدارة الرئيس ترامب العودة بتركيا إلى محورها التقليدي، وذلك عبر ما يلي:
- دعم واشنطن لموقف أنقرة في سوتشي: جاء ذلك إثر تغريدة الرئيس ترامب التي قال فيها: "إن أي هجوم في إدلب سيكون تصعيداً طائشاً للصراع، وهذا مهم جداً، لأن رأينا هو أن الوقت قد حان لوقف القتال، لقد كان هناك - ولا يزال - نحو ثلاثة ملايين شخص في إدلب، نصفهم تقريبا من النازحين من مناطق أخرى من سوريا، وهناك أيضا ما يقرب من 50 إلى 70 ألف مقاتل، معظمهم جزء من المعارضة التي كنا نعمل معها والتي لا يزال الأتراك يتعاملون معها"، وفي آخر اتصال هاتفي ليل الأحد - الأثنين الماضي، بين الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان والأميركي دونالد ترمب، تناولا فيه تطورات الملف السوري، حيث أكدا على أهمية اتفاق إدلب الذي أعلن عقب لقاء جمع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان في مدينة "سوتشي" الروسية، في 17 سبتمبر (أيلول) الماضي.
وفي هذا السياق قال المبعوث الأميركي إلى سوريا جيفري: "إن اتفاق سوتشي خطوة مهمّة جدا، لأن ما حدث هو أن الصراع قد تجمّد ليس في تلك المناطق فحسب، بل إن الصراع تجمد بشكل أساسي في كل المناطق الأخرى".
- تسوية ملف منبج السورية: اشتكت أنقرة مرارا من تباطؤ واشنطن في تنفيذ اتفاق خريطة الطريق في منبج، وهدد أردوغان غير مرة من اتخاذ اجراءات لازمة إذا لم يتم انسحاب الميليشيات الكردية من منبج، وفي الاتصال الهاتفي الأخير تطرق أردوغان وترامب إلى تنفيذ اتفاق خريطة الطريق في منبج الموقع بين أنقرة وواشنطن في 4 يونيو (حزيران) الماضي، والذي نص على سحب "الوحدات الكردية" والتنسيق بين الجانبين في حفظ الأمن والاستقرار إلى حين تشكيل إدارة محلية في المدينة.
وقالت مصادر بوزارة الخارجية التركية؛ إن اتصالا هاتفيا جرى بين وزيري الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، والأميركي مايك بومبيو، عقب الاتصال بين إردوغان وترامب لإجراء مزيد من المباحثات حول الموضوعات التي بحثها الرئيسان.
وفي السياق ذاته؛ قال الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، إن قوات تركية وأميركية يمكنها البدء في دوريات مشتركة في غضون أيام في منبج.
كما أكّد جيفري المبعوث الأميركي إلى سوريا: "لدينا قوات في تركيا تتدرب مع القوات التركية للقيام بدوريات مشتركة حول منبج، والهدف من وراء ذلك هو في الأساس إقامة منطقة آمنة، يشعر الأتراك معها بالراحة لأنها قريبة جدا من المناطق التركية، ونشعر نحن أيضا بالراحة، ويشعر السكان المحليون بالأمان، بينما تعود "وحدات حماية الشعب" إلى الجانب الشرقي من نهر الفرات، ما يثير قلق الأتراك أن تتحول هذه المنطقة إلى إقليم مستقل أو شبه مستقل، ومرتبط بحزب العمال الكردستاني، وهذا يشكل تهديدا لتركيا، ونحن ملتزمون أولاً وقبل كل شيء بسلامة أراضي سوريا كدولة موحدة، ونحن لا نشارك في بناء أمة في الشمال الشرقي، نريد أن نرى حالة استقرار وأمن دائمين بين المجتمعات هناك، العربية والكردية، لكن ليس لدينا أجندة سياسية واسعة وطويلة المدى هناك، لدينا أجندة عسكرية".
خاتمة
هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة تمثل خطوات ضاغطة، موجهة في الأساس إلى روسيا في إطار تشكيل خارطة جديدة، تشير إلى تغيّر واضح لحدود النفوذ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار إصرار واشنطن على بقاء قواتها في شرق الفرات، وفي قاعدة "التنف" العسكرية، وتنشيط حراكها الدبلوماسي من خلال حشد حلفائها كــ "دول المجموعة الصغيرة" التي تضم أميركا وبريطانيا وفرنسيا وألمانيا والسعودية والأردن ومصر، لتفعيل التسوية السياسية في سوريا وفق مرجعية القرارات الدولية في جنيف والتركيز على طرد الميليشيات الإيرانية من سوريا، والتوجه نحو تجديد العلاقات مع تركيا عبر التعاون في قضايا كانت خلافية والمضي مع أنقرة نحو التعاون في مدينة منبج، ودعمها في اتفاق سوتشي الخاص بإدلب، إيذانا بفصل جديد على الساحة السورية قد يمزق الخرائط المرسومة ويبدل مساحتها مدا وجزرا في ظل الاشتباك الدبلوماسي بين موسكو وواشنطن، التي ترى في التوجهات الروسية خروجا عن مسار القرارات الدولية واتهام موسكو لواشنطن بالتضليل الإعلامي.